سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(14)

 

جبل الثلج

د. صالح الفهدي


كجبلِ الثلجِ لا يظهرُ إلاّ الثلثُ بينما يختفي الثلثانِ تحت الماء هكذا تبدو الصورةُ في المجتمع، فالكامنُ عميقٌ، والظاهرُ سطحيُّ لا يكادُ يكشفُ عمّا هو مستبطن..! وأغلبُ الناسِ تعيشُ على السطحِ، إلاّ أنها تعيشُ بثلثٍ ظاهرٍ، وتُخفي ثلثينِ باطنين..!. حوادث لا يعرفها إلاّ العالمون، وأفكارٌ لا يطّلعُ عليها إلاّ العارفون..!

أن تعيشَ في مجتمعٍ لا تدركُ كم يطوي في أعماقهِ من خبايا فتلكَ إشكاليةٌ فكرية ومعيشية، لأنك قد تقعُ فريسةً النيّة الحسنة، والتفسيرِ الساذجِ للأمور، لكنك ما أن تقتربُ من تلك الأقاصيصِ المخفية، أو تشهدَ تلك الأحداث المرويّة حتى تصعق قائلاً: أيحدثُ هذا في مجتمعنا..!. حين تقتربُ من المراكزِ الصحيّة، أو الاجتماعية، أو قاعات المحاكم، أو مكاتب المحاماة، أو غيرها التي تدسُّ في أضابيرها حكاياتٍ لا تحصى ولا تعد من الجانب المخفي من جبل الثلج فإنكَ لا تكادُ تصدّقُ ..!

يقول لي أحد المسؤولين في مؤسسةٍ من المؤسسات أن أحدهم قال له: مشكلتكم أنّكم تبدأون عملكم بعد شروق الشمس حينما تتوقفُ بعض المحلاّت عن أنشطتها الخفيّة لتباشر أنشطتها الاعتيادية التي هي مجرّد تمويهٍ تجاري..! يقول آخر: إن عشرات المزارع قد استأجرها آسيوي لأغراضٍ مشبوهة..! تقولُ إحدى الإخصائيات: إن بعض البيوت تشهدُ فجائعَ بين المحارم لا يكادُ يصدّقها العقل البشري!.

إنني أغبطُ القضاةَ ورجال الشرطة والأطباء ومساعديهم والأخصائيين الاجتماعيين وكل من يتعاطى مع الأحداثِ التي تدور في الجانب المُظلم في المجتمع، ذلك الجانب الذي لا نكادُ نسمعُ له همساً، ولا نبصرُ له حراكاً لأنّه يتحرّك خفيةً كاللّص المتسلل في ثنايا الظلام..!

ولا يقتصرُ ذلك على جوانبِ الأخلاقِ وإنما الأدهى والأخطر جوانب الفكر، ذلك الذي يعمل على تدمير العقول، وتوجيهها لما فيه هلاكها وهلاك مجتمعها..! ولعل مقالي "دواعش فكرية" قد تطرّق إلى هذا الجانب. يقول لي أحدهم: في بعض المؤسسات حيثُ يفترضُ أن يُعلّم النشء على سلامةِ الفكر، ويُسْرِ الدّين وجدنا -بحسب قوله- من ينشِّئهم على التزمّتِ، والتعقيد منذ نعومةِ أظفارهم..!

إنّ المؤسسات المجتمعية لا تُعنى فقط بما يدبُّ فوق الأرضِ، وما يُرى رأي العين، وإنّما عليها واجبُ الاستقصاءِ والسبر في الأغوار..! عليها واجبُ المتابعةِ والترصّد فـ"درهمُ وقاية خيرٌ من قنطار علاج"..! يقول نيكوس كازانتزاكيس:"المعنى الحقيقي للتنوير هو أن ننظر بأعيننا المتوهجة إلى كل بقعة من بقع الظلام". لكن الإشكالية التي أراها هي أننا لا نملك مراكز للدارسات الاجتماعية التي تتقصى الحراك المجتمعي، وترصدُ حالاته الاجتماعية، وقضاياه الفكرية، وتقلباته النفسية لتعمل على تحليلها وتقويمها. المجتمعات التي أهملت هذا الأمر عاشت على وهم أن "الأمور طيبّة" كما يُقال، وأن الوضع "تحت السيطرة" لكن الأفكار التي يتغذى بها البعضَ من إلحادٍ إلى تطرّف ديني قد تقود إلى وضعٍ متأزّمٍ حيث لا ينفع الندمَ حينها..!

قرأتُ مقالاً لأحدهم كتبَ فيه عن صديقٍ له سافرَ كي يدرسَ في إحدى الدول دون أن يُسمّيها وجاءَ بأفكارٍ متطرفةٍ، فلمّا أُلقي عليه القبضُ بعض سنواتٍ وهو في طريقه للقيام بواجب "الجهاد الزائف" أُخضعَ إلى تنوير وتبصير فإذا به يقول: لقد كنتُ في ضلالة، ولولا أن منعت لكنتُ أقاتلُ الآنَ إخواني المُسلمين..!! هذه قضايا لا يكادُ يتبصرها إلا الأقربون الذين يحمّلهم الوطنُ أمانةَ التبليغ امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم "أُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: ننصره مظلوماً لكن كيف ننصره ظالماً، قال النبي الأكرم: تمنعونه عن الظلم فذلك نصره"(أخرجه البخاري)..!

وددتُ أن أرى مراكز دراساتٍ وأبحاث اجتماعية فهي في نظري محطات رصد، ومنارات توجيه، قبل أن أرى مراكز حماية تبدأ مهمّتها بعد وقوعِ الحوادث حيثُ لا تنفعُ المعالجات الجوهرية بعد أن دهت الدواهي، ووقعت الأحداث الجسام..!

وددت أن أشهد قيامَ مراكز استشاراتٍ نفسيةٍ واجتماعيةٍ وفكرية قبل أن أشهد محاكم لا تنظرُ إلاّ في جرائم واقعة، وجُنحٍ حاصلة..!

وددتُ أن أرى إعلاماً استقصائياً باحثاً متلمساً جذور المشكلات، كاشفاً لأستارها، موضّحاً أسبابها، فيخرجها من السراديب والأغوار إلى العلن، لا إعلاماً تقريرياً يهرعُ عند وقوع الحوادثِ، ليستفتحَ بها أعداده..!

وددت أن أرى مراكز استشاراتٍ قانونية كما هو الحال في بعض البلدان الأوروبية حيث تتبع المراكز مجلس المدينة city council.. قبل أن تقوم لجانَ توفيقٍ ومصالحة..!

وددتُ أن أرى مراكز الدعم الأساسي للأُسر من أجل التوجيهِ والإرشاد أوسعَ مما تقوم به مراكز البدايات الأكيدة Sure Start Services في بريطانيا.. قبل أن أرى دوراً للحماية الأسرية، والعنف المنزلي..!

وددتُ أن أرى مجتمعاً مبادراً، يعمدُ إلى إعادة المياهِ إلى مجاريها، لا أن ينتظرُ الفيضانَ كي يدمّر كل شيء..! مجتمعاً يتحرّك بجميعِ أفرادهِ ومؤسساته إلى ما يصلحِ أحواله، ويرتقُ عيوبه، ويقوّم أخطاءه.

وددت أن أرى مؤسسات لا ترى في المهرجاناتِ احتفالات السطحِ، وإنّما تتقصى آثارها العميقة على المجتمع، فبعض المهرجانات تخلّفُ مآسي لا يُدركها إلا من يتدبّر في عواقبها..! تنتهي المهرجانات ولكن تبدأ فصولٌ جديدة كانت أحداثها تجري في كواليسها..! انتهى الضجيج والصخب وبدأت الأحداث الخفية الصامتة تؤتي ثمارها البائسة..!

لقد أشفقتُ وأنا أتحدثُ إلى الفتيان الأحداث الذين لا تزيدُ أعمارهم عن الثامنة عشر في السجون، وأقول في نفسي: نحنُ الذين أودعناكم هذه الخاتمة، ونحن الذين يفترض أن نخرجكم منها سالمين لتعودوا مواطنين صالحين..!

لكن الجهود المخلصة التي ترمي للإصلاح قد لا تلاقي من يدعمها، بل تواجهُ المعوّقات الكأداء..!! أحد المواقف التي مرّت عليّ كان لطلاّب جامعيين لم يجدوا دعماً لجهودهم من أجل إصلاحِ الأحداث، وما يزيدُ الأمرُ مرارةً أن باحثاً متطوعاً كان يأتيهم من دولةٍ مجاورةٍ ليدعم جهودهم، فقدمتُ لهم من جانبي ما استطعتُ من إمكانيات..!

إنّ الضياعَ والانحراف يقعان حيثُ يغيبُ العلمُ، ويظهرُ الجهل، يقول جمال الدين الأفغاني"لن تنبعث شرارة الإصلاح الحقيقي في وسط هذا الظلام الحالك إلا إذا تعلمت الشعوب العربية وعرفت حقوقها، ودافعت عنها بالثورة القائمة على العلم والعقل" لهذا لا يمكنُ أن يعيشَ المجتمعُ ممتدحاً جمالَ خشبِ السّاجِ وداخله تنخرُ حشرة الرِّمة..!! فالمجتمع المسؤول هو الذي يتمتعُ ببعد نظرٍ، فيوجّه وينصحْ، ويقيّمَ ويُصلح. أمّا المجتمع المخدور فهو الذي يستطيبُ المسكّنات لكي لا يشعر بالألم، فلا هو شُفي من المرضِ ولا هو عالجهُ بالدواءِ المناسب..!



 





الناس كالنوافذ ذات الزجاج الملون فهي تتلألأ وتشع في النهار وعندما يحل الظلام , فإن جمالها الحقيقي يظهر فقط إذا كان هنالك ضوء من الداخل . - اليزابث روس



البلدية أنتم لا تذهبون إلا الصباح

مراكز الدراسات

تعليق عبر الفيس بوك