تغريد "البابو" وانحسار "السفرجل"

هلال بن سالم الزيدي *

قُبيل شروق الشمس من بين تلك الجبال التي طوقت بلدتي الحالمة بحياة التمدن جرتني قدماي لاستعيد ذكريات مضى عليها ما يُقارب عشرين عاماً، فبلدتي كباقي البلدات الممتدة في ذلك الوادي العتيد تشكل امتداداً لحياة الكثيرين ممن شربوا من أفلاجها وتسوروا نخيلها الباساقات، ولعبوا بين سواقيها، وعلى الرغم من جفاء البشر لها عندما نزحوا للبحث عن مصدر للحياة على ضفاف التقدم إلا أنّهم يكنّون لها حباً ووداً، ويتألمون إذا أنّ جذعها وهوت نخلتها بسبب ظروف الحياة.. هناك حيث الرقعة الزراعية التي اختلطت بجمال الطبيعة وإبداعات الإنسان نشم رائحة التفاني والإخلاص من أجل عطاء الأرض.. فبين الإنجاز وحب العمل تكامل طبيعي تتحكم فيه مفردات البيئة.. وبين القطاع الزراعي والمزارع اتفاق مبني على مهنة الزراعة كموروث وحرفة تجلب الرزق، لذلك كانت عمتنا النخلة مدللة لدرجة كنّا نغار من دلال المزارع لها.. فكم من قصة نجاح طرزت إنجازاتها بواقع الخبرة وانغماس الأيادي في تراب تلك البلدة البعيدة في مسماها والقريبة في تكوينها البسيط، إلا أنّ الحياة وتبدلاتها قضت على ذلك الدلال ليكون وبالاً فهوت النخلة وتيبست أطرافها، ولفها الحزن الذي كسر رونقها وإنتاجها وكبرياءها.

وأنا أمشي بين تلك الحياة تذكرت الصباح الباكر الذي نولد فيه من جديد نبحث عن حبة سقطت من ريح هزّ النخلة لنجمعها في إناء بلاستيكي تلك العادة التي كانت تسمى "بالرقاط" أو "اللقاط" ، فكم كانت متعبة لكنها رائعة بعد إنجاز المهمة .. عندما أغرقتني الذكريات تعثرت بكومة من مخلفات النخيل "الزور" التي ملئت الأمكنة فتكاثرت فوق بعضها فقلبت المنظر إلى مكب للنفايات لأتلمس سكون المكان الذي هجره الجميع ما عدا عمال يعبثون به كيفما شاءوا، لتختفي الزراعة رويدًا رويدًا.

لم تعُد الزراعة كما كانت لأنّ الأجيال المتعاقبة لم تقدر هذه المهنة وخيراتها، فهي كغيرها من المهن التي تُربي الإنسان وهي بحاجة إلى جهد وعمل دءوب.. ومن الضروري أن يتولّد في نفوس البشر الإصرار لنتمسك بمهنة الأجداد حتى نستطيع أن نعبر حدود المستحيل إلى أمجاد نخطط لها بفكرة تواكب ما نحن عليه من تقدم لنترجمها على أرض الواقع بسلاسة اليد التي تهوى البناء.

وهي تجري في تلك السواقي بسيمفونية الجمال مشكّلة لوحة جميلة من حيث السمع.. لكنها تفتقد لعزف الطيور .. حتى "البابو" هجر المكان، فكم كان يعطي للمكان هيبة وجودية عندما يقفز بين أشجار "اللثب" باحثاً بين تلك الأغصان عن ثمارها، لا أدري، هل لأن اختفاء الأطفال الباحثين عن "البابو" ببندقياتهم الهوائية "الكسر" أغضب ذلك الطائر ليذهب ويبحث عن حياة بها كل شيء وأولها التحديات.

لا تتوقف في جريانها وامتدادها حتى بعد جفاء أبنائها لها، لأنّها فقدت الإرادة التي كانت تناغم خيرات الأرض.. فلم يعد هناك جهد يطاول عنان السماء.. ولا إبحار بين ضواحيها من أجل التمسك بالمهنة لتحقيق مآرب الفكر والتوجهات التي ترسم طريق النجاح، ولم يعد السعي بين أشجار "السفرجل" كما عهدناه أيام الشقاوة، متاح من حيث التنوع والحلاوة والخضرة النضرة، فعلى مرمى البصر انتهت تلك القصص بفصول نجاحها، واندثرت التطلعات التي كانت تهتم بزيادة الإنتاج والوصول إلى مراسي الأمان..

كنت أبحث عن تلك المعابر التي غرست فيها قدماي عندما كانت تختلط بالوحل.. بحثت كثيرًا عنها فلم أجدها .. لأنّها اندثرت وتيبس الوحل بعدما ذهب من يُقدر ويعرف قيمتها، فكم كان ذلك المزارع لا يفارقها إلا لراحة تحت ظلها، ليتنفس عبيرها وأجواءها لذلك كان يتحدث بلغة الإنجاز والوصول إلى تتويج الجهود المبذولة بحرفنة المهنة، فتشكّلت لديه طقوس القصة ذات بداية تعود لقديم الزمان ولها فصول مستمرة باستمرار الحياة، ولكنها كانت مغلقة النهاية، عندما هجرناها.

لأشجار السفرجل في بلدة "بعد" طقوس جميلة، وذكريات رائعة.. فبعد وصولي إلى "وقيف السفرجل" كما يسمى تراءى لي ضعف الثمار، لضعف الاهتمام.. فتسمرت لذلك المشهد الذي رأيت فيه العامل الآسيوي يقطف الثمار ليذهب بها هو لبيعها في أسواق مختلفة.. هنا تذكرت وقوفي عند محطة تعبئة الوقود في ذلك الزمان.. حيث كنت أحمل أكياس تحتوي على حبات السفرجل لأباغت بها مرتادي المحطة من أجل التزود بالوقود لسيارات قادمة من "البندر"، وكم كنت أشرح للكثيرين منهم ماهية هذه الثمار وفوائدها لأحظى ببيع وفير.. ذهبت تلك الأيام وها هو العامل يعبث بتلك الطقوس.

وأنا أمشي .. تذكرت كل شيء فذهبت لأشجار الزيتون "الجوافة" التي كنت أهوى تسلقها، فلم أجدها لقد تكسرت تلك "الركن" التي كانت تحملنا للظفر "بشوب زيتون" بعد رحلة عناء "الرقاط".. حتى المكان بأكمله تبدل وأصبح أكثر قتامة.. لأنّ بناء الأرض لم يعتمد على سواعد أبناء الوطن.. ولم يجد الحرص للمحافظة على مهنة الزراعة.. فذهبت البذرة واختفت الثمار.

الزراعة مهنة .. والمهنة حب وعطاء .. وبذل جهد ومراعاة،لا أن أرمي البذرة وانتظر الحصاد، أو البحث عن محصول لا يحتاج إلى جهدي وإنما جهد الآسيوي الذي لا يعرف ماهية الزراعة .. لكنه يعرف كل شيء عن ابتعادنا عن حب هذه الرقعة الزراعية.

هذه البلدة أصبحت بيئتها صعبة يحفها الإهمال إلا بعض الضواحي التي لا زالت تجد اهتمام الكبار.. وبعد تلك الجولة السريعة خرجت من ذلك البساط البني.. متأملاً ومتألماً لحال المهنة والأرض.

همسة:

لم أنس باقة الورد والعطر المغلف .. وكنت على وشك أن أهديك باقة أخرى في هذا العيد .. لكن هديتك وصلت قبل، لذا أردت ألا أفسد جمال هديتك .. لتبقى راسخة وثابتة لأنك أنت العيد.

*كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك