الحَجُّ.. قيم التضحية والفداء

 

 

 

حاتم الطائي

نعيشُ هذه الأيام أوقاتاً مُباركة، ونتنسَّم نفحات رُوحانية عطرة، مع إطلالة أيام الحج.. هذا الموسمُ الرَّباني الذي تتجسَّد فيه معانٍ سامية، وتتجلَّى فيه قيمٌ رفيعة، نحن أحوجُ ما نكون إلى الامتثال لها في سائر أيامنا وجميع مواسمنا؛ حتى تنصلحَ حالُ الأمة المسلمة، التي ترزحُ تحت وَطْأة الخلافات، وتعصفُ بها أعاصير الشقاقات.

 

إنَّه ذو الحجة، شهرُ الحَجِّ، الرُّكن الخامس الذي به يُتوَّج إسلامُ المرء؛ والشعيرة عظيمة الشأن التي تتمثَّل في مناسكها أبرزُ مظاهر الوحدة الإسلامية، وتتجسَّد فيها أروع قيم التضحية.

 

إنَّ معاني التضحية تتبدَّى جليَّة في كافة مناسك الحج؛ بدءًا بالتجرُّد من زخرف الحياة الدنيا، ووصولاً إلى نَحْر الأضاحي في يوم العيد؛ فالحاج يمتثلُ إلى الأمر بالمساواة في اللبس "الإحرام" خلال أيام الحج؛ ليتساوى بذلك مع ملايين الحجاج ممن يُؤدُّون النسك معه، مُضحِّيا في ذلك بهَوَى النَّفس في التفرُّد والتميُّز باللباس، كما أنَّ اجتماعَه مع الحجيج على صعيدٍ واحد في مِنَى وعرفة ومزدلفة، هو امتثالٌ لمتطلبات أداء شعائر الحج. وهنا أيضا يتغلَّب على غرائزه، مُضحِّيا برغبته التي قد تريد له التواجد في أماكن أخرى في هذا التوقيت.

 

إذا.. هو نَسَق مُتصل من قيم التضحيات والتجرُّد ونكران الذات، يزخر بها هذا الموسم الرَّوحاني الفريد، ويتوَّج بيوم النَّحر، وفيه يُوجِّه المسلمون أضحياتهم نحو القبلة؛ إحياءً لسُنَّة أبينا إبراهيم -عليه السلام- الذي رأى في المنام أنَّه يذبحُ ابنَه وقُرَّة عينه إسماعيل، فلم يتردَّد -عليه السلام- في تنفيذ الأمر الإلهي، وشرع في التقرُّب إلى ربِّه بأنفس شيء لديه وهو فلذة كبده؛ ففَدَى الله إسماعيل بذبحٍ عظيم؛ لتُصبح سُنَّة الأضحيّة تذكيرًا للنفوس بمعانِي التضحية لله بالغالي والنفيس، وليعلموا أنَّ المسلمَ مَنْ صدَّق قوله فعله: "فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين".

 

إنَّ رسالةَ الأضحية الأساسية تتمثَّل في التضحية والفداء.. والمقصودُ بالتضحية هنا ليس فقط ذبح الأضحية ونحرها، بل الحكمة من وراء ذلك؛ من خلال تدبُّر قصة أبينا إبراهيم وشروعه في التقرُّب إلى الله عَبْر ذبح ابنه؛ لنخلُص إلى منهج الحثِّ على العطاء الخالد بمختلف أشكاله ودرجاته المختلفة؛ من أجل صلاح الإنسانية؛ كالتضحية بالمال والوقت والأهل والنفس.

 

فالتضحية بالمال في مختلف صورها -من زكاة وصدقات- مرضاةٌ لله وإسهامٌ في تحقيق التكافل الاجتماعي. أما التضحية بالأهل والأقارب، فهي الهجرة إلى الله، كما حَدَث مع رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- عندما اضطر إلى الهجرة من مكة التي يُحب إلى المدينة المنورة: "إنك لأحب بلاد الله إليَّ، وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت".. وعلى مَرِّ التاريخ لا يزال الإنسان يُضحِّي عبر الهجرة ومفارقة أوطانه بحثا عن حياة كريمة.

 

ولا تكتملُ الصُّورة إلا باستحضار جِهَاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصبره في وجه التعذيب والرفض من قريش حتى يدخل مكة فاتحًا بعد هجرة وسفر وعذاب طويل.. إنَّها التضحية والصبر؛ حيث يُقابل التضحية الفتح العظيم، إنَّها ثمار رحلة الإيمان والعمل الصالح والتضحية.

 

إنَّنا اليوم في أمسِّ الحاجة إلى تجسيدِ معاني الحج والأضحية في حياتنا المعاصرة -كأفراد ومؤسسات وأوطان- لتستقيم أمورنا بعيداً عن دمار الأنانية المفرطة.

 

إنَّ عالمَنا العربيَّ والإسلاميَّ يشهدُ اليومَ حالة من الشتات والفرقة، بعد أن جدَّفنا بعيدًا عن معاني الوحدة، وتخلينا عن الاستمساك بالعروة الوثقى، وفرطنا في اللُّحمة الواحدة، وابتعدنا عن قيم التضحية؛ فمشاهد الحزن التي تتسبَّب فيها الحروب والضغائن والأحقاد من اليمن وحتى العراق وسوريا وليبيا، أضحتْ عنوانا للمشهد الحزين.. رجعنا القهقرى سنينَ ضوئية عديدة، تنكَّرنا لماضينا التليد، عندما كُنَّا أمة لها مكانة الصَّدر بين الأمم؛ فأضحى اليوم يقتل المسلم أخاه في الدم والعقيدة.. وجَّهنا سهامنا لنحور بعضنا وتركنا العدو والصهاينة يعيثون فسادا في الأقصى ويدنِّسون قدسية أولى القبلتين دون رادع؛ ولو سار الحجاح من مكة إلى القدس على أقدامهم لكان ذلك كافيا لردع الصهاينة وإعادة الاعتبار للأمة الإسلامية.

 

ويبقى القول: إنَّ هناك الكثيرَ من العمل ينتظرنا. وقبل ذلك، علينا استدعاء ما يحفل به هذا النسك العظيم من معانٍ، والاستفادة من عِبَره ودروسه، واستشعار القيم السامية التي يزخر بها -وفي مقدمتها التضحية والتجرد- حتى لا تتحوَّل الشعيرة إلى مجرد طقوس لا عُمق لها!

 

تعليق عبر الفيس بوك