رايات السلام

عائشة البلوشيَّة

رنَّ جرس الفسحة في أحد نهارات النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وأنا أقف في مدخل المدرسة مُترقبة بلهفة، دلفتُ حافلة منزوعة الكراسي ومعدة داخليا لتصبح مكتبة، ووقفت في ساحة مدرسة ذات النطاقين الإعدادية للبنات، كنت مع زميلات الدراسة ننتظر ما أعلنته معلمتنا يوم أمس لإحضار مبالغ مالية لمن أرادت شراء الكتب من المكتبة المتنقلة، ولا أبالغ إن قلت بأنَّ وجيب قلبي يكاد يصل إلى آذان صويحباتي، وما إن توقَّفت الحافلة تراكضنا وكأننا نريد لمس أغلفة الكتب؛ لنتأكد من أننا لسنا ضمن حلم جميل، وكنتُ أحبُّ اقتناء الكتب بمختلف المواضيع. والمضحك أنَّني في ذلك اليوم اقتنيتُ كتابا غريبا ومعقدا، وبعد أن عدت إلى المنزل حاولت تصفحه، ولكنني لم أستطع فهم طلاسمه؛ فعقلي الصغير وطفولتي لم تبلغ إدراك ما أقرأ؛ فخبَّأت الكتاب مع ثروتي الغالية من الكتب؛ ﻷنَّني منذ صغري أعمل بالمقولة الشهيرة "أحمقان: معير كتابه ومعيده". وعندما أنهيت الثانوية، عرفتُ عن طريق الصدفة أنَّ هذا الكتاب من أخطر كتب السحر والشعوذة؛ فارتعدت فرائصي، وبصمت وحذر من ارتكب جرما، تسللت إلى مخزن المنزل، وأخرجت الكتاب من بين المجموعة الكبيرة التي أقتنيها، وذهبت إلى النخل وقمت بإحراقه حتى لا يقع في أيدي جاهل أو أي شخص. وحقيقة استغربت من أنَّ الرجل الذي كان يبيع الكتب لم يمنعني من شرائه!

كبرنا وأصبح معرض الكتاب بالنسبة لي عيدا غاليا على قلبي، أعد له العدة والعتاد، وكانت محصلتي من معرض الكتاب 2015م ثرية وزاخرة، رغم أنَّني لم أطأ أرض المعرض، لكنني أحمل الامتنان وجزيل الشكر ﻷختي الصغرى ثريا، والتي تحمل نفس الهوس القرائي؛ فقد كنتُ أرسلُ لها بقوائم الكتب التي أرغب في اقتنائها؛ فتأتي لي بها جزاها الله خيرا. ومن ضمن ما اقتنيتُ هذا العام: مجموعة الكاتبة والمحاضرة الأمريكية "جين ساسون"، والتي صَدَر لها تسعة كتب احتلَّت الصدارة في الكتب الأكثر مبيعا في العالم، وكتاباتها تنحصر حول أسلوب "السير الغيرية"، والمقصوصة لها من صاحبات التجارب أنفسهن، وشرعتُ في الفترة الأخيرة ألتهم الكتاب تلو الآخر لمجموعتها؛ فكانت البداية مع الأميرة سلطانة، إلى أنْ وصلت إلى قصة "جوانا" الكردية في "مغامرة حب في بلاد ممزقة"، ثم "ياسمينا" اللبنانية في "خيار ياسمينا"، وأخيرا إلى "ميادة ابنة العراق"، وكنتُ أغصُّ مع كل لقمة قرائية أتناولها؛ وذلك لهول ما أجده من صنوف الويلات والظلم والعذاب والاستبداد الذي تزدرده كل بلاد تتعرض للحروب.

... تعرَّفت خلال هذه المجموعة من الكتب على شخصيات، عشتُ معها أعنف وأقسى ما يمكن أن أتعرَّف عليه من تفاصيل الرعب والهلع والجوع والتشرد ونهش الأعراض والخيانات والهروب من الموت إلى اللامعلوم؛ فتذكرتُ -رغم أني لا أنساهم- أولئك الهاربين من رمضاء الربيع العربي إلى نار سماسرة التهريب في جحيم أمواج البحر الأبيض المتوسط، وﻷنَّني عاشقة للسلام وهو ديدن بلادي وقائدها -حفظه الله ورعاه- لم أكن أدرك هذا الكم الهائل من الويلات والتدمير على المستويين التنموي والإنساني، وكيف هي الحال في مخيمات أو ملاجئ الإيواء، والانعكاسات الخطيرة على كل بلد تقع تحت حجر رحى الحرب، أو البلدان المجاورة لها، ومستوى الخراب التي تتسبَّب بها القرارات غير المدروسة؛ فكنت كلما أنتهي من قراءة فصل من الفصول، أنهض وأجول تاركة العنان لامتداد بصري ممتنَّة وحامدة لخالقي ﻷنني من هذا البلد وإليه.

فمنذ البداية، كانت رؤيته -حفظه الله ورعاه- وأهدافه لهذا البلد واضحة، أن نعيش في أمان وسلام، وأن تكون لبلاده الشخصية الاعتبارية الصديقة لجميع دول العالم؛ لذلك حرص -رعاه الله- على أن يسوس البلاد نحو البناء في الداخل والخارج؛ فشيَّد التنمية داخل السلطنة، وحرص على أن يرفع اسم سلطنة عمان في العالم، ورايات السلام رمزا واضحا يرفرف بشمم كلما نطق باسمه، طوبى لنا على هذه الهبة الإلهية العظيمة؛ فالحمد لله والمنة على نعمه وآلائه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ولعلَّ تغريدة أحد المغردين الخليجيين عندما غرد: "الحكمة يمانية وهي أيضا عُمانية" تختصر الكثير جدًّا من الكلام؛ فاللهم أدم علينا النعم واحفظها من الزوال.

توقيع: "لعل ما تخشاه ليس بكائن... ولعل ما ترجوه سوف يكون" (أبو العتاهية).

تعليق عبر الفيس بوك