"بي.بي.سي" في مصر

جمال القيسي

ماذا عن الأوضاع في مصر؟ سارة؟

ثمَّة تركيز إعلامي واضح من قناة "بي.بي.سي" العربية، على الشأن المصري الداخلي، وهو تركيز مشروع ومطلوب؛ لاعتبارات متعددة غالبيتنا يعرفها، بالنظر إلى ما تعنيه مصر من ثقل سياسي واجتماعي وهوّياتي لنا جميعا. وما يلفت الانتباه في تسليط الضوء هذا أن جوانب عديدة من الشخصية المصرية، أو التوجه المجتمعي المصري، إذا شئت، يتضح ويتكشف بصورة لافتة، ليست مطمئنة، حيث تفيد التقارير التليفزيونية، والبرامج الاحترافية، إلى وجود حالة من رد الفعل العصبي المتشنج مع الأحداث من قبل المصريين، وعلى اختلاف المستويات الثقافية والاجتماعية (السياسية موضوع آخر)؛ مثال ذلك التعامل العصبي مع ظاهرة التحرش التي تعانيها مصر بصورة مرعبة، وتدعو إلى الأسف، وهو ما يتطلب الدعوة إلى مزيد من التوصيف الجارح، والمطالبة بالتشديد العقابي على مرتكبي هذه الجريمة النكراء المخزية، غير اللائقة بامرئ سوي، يملك أدنى شعور بالكرامة واحترام النفس.

وفي سياق الظاهرة الخطيرة والتعاطي معها، وبمزيد من العصبية والسذاجة والطرافة غير المضحكة، فإنَّ ثمة لقاء بناشطين مصريين تابعته، قبل أيام، على "بي.بي.سي" ذكر -في ما ذكر- أن نسبة النساء اللواتي تعرضن للتحرش في مصر تقارب الـ95%!! وهي نسبة مروِّعة وخطيرة ومؤسفة، كما نرى، وهي واقعة وموقعة، في آن معا، مدعاة إلى الكثير من الخجل؛ إذ غير صدمة النسبة المهولة؛ فإن الجانب الآخر في المعلومة يفيدك بأن عدد ممارسي جريمة التحرش، من العرب، يصل إلى عشرات الملايين في بلد واحد! لا أدري مدى دقة المعلومة، لكن لا أتوقع من قناة رائدة مثل "بي.بي.سي" التدليس في موضوع على هذه الخطورة المجتمعية والأخلاقية. وقد وردت المعلومة/النسبة في خضم نقاش بين مذيع مصري وناشطة وناشط مصريين. الناشطة المصرية هي الدكتورة دينا أنور منسقة حملة بعنوان "البسي فستانك واستردي أنوثتك"، وهي دعوة للنساء المصريات لارتداء/أو العودة إلى ارتداء الفستان. وأما الناشط فهو الشاب تامر أمين منسق حملة "ما تعبرهاش"؛ أي لا تلق لها بالا، المقصودة المرأة المصرية. هاتان الحملتان ومنسقاهما جمعتهما "بي.بي.سي" بحسها الإعلامي العالي، في لقاء مكثف ومهني، جاء في حدود إحدى عشرة دقيقة (وهذه المدة الزمنية تأتي مني، هنا، دون ربط مقصود "أو مقصود!" برواية "إحدى عشرة دقيقة" لباولو كويلو).

الدكتورة دينا أنور قالت -بما معناه- إنَّ دواعي إطلاق الحملة جاءت نتيجة حنين نفسي من الفتيات والنساء المصريات إلى الزمن الجميل، الذي كانت فيه المصرية ترفل بفستان ملون وكعب ملون يبعثان على البهجة والتعبير عن الأنوثة، تماما مثل تلك الفساتين التي نشاهدها في أفلام الأبيض والأسود، للبطلات الكبيرات مثل سعاد حسني وفاتن حمامة وهند رستم (لم تقل هند رستم أنا أضفتها).

أمَّا الشاب تامر أمين، فقد قال -وكان مستفزا وعصبيا طول مدة اللقاء- إنَّ حملة "ما تعبرهاش" هي رد فعل طبيعي من الشباب المصري على الإهانات التي توجهها الفتيات المصريات للشباب المتحرشين ووصفهن للمتحرشين بأنهم ليسوا رجالا! وقال تامر، في ما قال: إنَّ الحملة لا تعني دعم التحرش، أو الاعتراف به بأي حال من الأحوال. وانتقد تامر -دون أن يسأله مقدم البرنامج- حملة "البسي فستانك واستردي أنوثتك"، قائلا باستنكار: ماذا تعني هذه الحملة؟ هل يعني هذا أن أي امرأة لا ترتدي الفستان هي ناقصة الأنوثة؟ محق هو في هذا التساؤل، لكنَّ الدكتورة دينا نفت اتهام الحملة بأنها تحتكر الأنوثة، وأوضحت أنَّ الحملة لا تجبر أحدا على الانصياع لها أو الإيمان بطرحها، ولا تشكك بأنوثة أية امرأة. المهم تامر قاطع دينا ودينا قاطعت تامر والمذيع قاطعهما أيضا. وقالت دينا إنَّ التحرش لا يقع على مرتدية الفستان بل حتى على المناقبة، فقاطعها تامر، وقاطعته دينا.. وأنا أقطع بأن الأمور في مصر ليست بخير؛ حيث تابعت تقريرا على "بي.بي.سي" بعد يومين، من لقاء دينا وخالد، حيث تعرض التقرير لانطلاق خدمة جديدة ومشروع رائد في مصر لحماية النساء من التحرش! ويتمثل الأمر في تأسيس شركة اسمها (pink taxi)، وهي من الاسم سيارات أجرة ذات لون زهري، وهذه السيارات تقودها نساء ولا تقدم خدماتها إلا للنساء! أي يمتنع على أي ذكر استعمال هذا النوع من التاكسيات، وفي التقرير تقول إحدى السائقات عن هذا المشروع (ما معناه): هو محاولة للحد من حالات التحرش للنساء في الحافلات وسيارات الأجرة، حيث يركز بعض السائقين المرآة على وجه المرأة في المقعد الخلفي!

المشروع تجاري محض، يلتف على الشغل الشاغل بعقلية السوق، ويمتطي ظاهرة التحرش بكل أذاها، لإيصال النسوة إلى خدورهن، عبر اللون الزهري، من باب اللون المعبر عن الأنوثة دون الانضمام لحملة "البسي فستانك" أو "متعبرهاش".

أصدقائي في مصر، أصدقائي في العالم العربي.. ألستم معي أن الأوضاع في مصر غير سارة؟ ألستم معي؟

تعليق عبر الفيس بوك