"العروب" ناجحةٌ وتُنقل إلى الجنة!

هلال بن سالم الزيدي

مع انبلاح الفجر الذي يُبدد الليل تبدأ تباشير الحياة تدبّ على هذه الأرض، فيشرق النور بطاقة إيجابيّة يبثّها حب الوطن في نفوسنا التي تزهد لذة الفراش، ونُبكر في كسب الرزق.. فهناك وبين أزقة الحواري ترى ثيابا بيضاء وحجيجًا يفدون لطلب العلم يرددون "نشيد النور في شفتي" الذي يمدهم بلذة تلقي العلم.. تلك الثياب تتداخل فيما بينها مكونة مجموعات ونقاءً كنور الفجر عندما يتبسّم في وجه السواد، فظهور أولئك الفتيّة تقوست من حقيبة الظهر التي تمنحهم آفاقًا لفهم العالم من حولهم، فالكتب والدفاتر والأقلام تحتاج إلى حضن يدفئها ويفهم وجودها من أجل الوطن وانحناء ظهورهم كان تقربًا وتقديساً لتراب الوطن الذي احتواهم.

" تعيش تعيش مدرستي.. أحب معلمي الغالي.. أحبكِ يا معلمتي".. هذا النشيد الذي كتبناه في صدورنا في ذلك الكيان المقدس كانيردده الطلاب وهم في سيرهم لأول حضن يلفهم بدفء العلم.. فتلك مشاهد صباحية نراها كل يوم ونربطها بالماضي الجميل من أجل رؤية الحياة في أبهى حللها.. "أرى علمي أرى وطني.. أرى الدنيا بمدرستي"، وهل هناك دنيا أخرى غير المدرسة وبما تحويه؟ ربما يكون هناك ما يناقض تلك الحقيقة في عصرنا الحاضر واختلاف الجينات البشريّة، فقبل الصباح يأتي الليل أو العكس.. وعند ذكر الليل أتذكر "القنديل" الذي كان ينير سطور كتبنا.. وأتذكر تلك الأكياس التي كنا نضعها عند رؤوسنا عندما يكون يومنا التالي يوما دراسيا.. وكل ما أفقنا في ليل دامس تحسسناها لنطمئن ونعود للنوم منتظرين الفجر بكل لهفة وتكبر أحلامنا "ويكبر يكبر العصفور..من سنة إلى سنة".. إنّها لهفة الصبا واكتشاف الحياة بطعمها الجميل.. كلهفة " العروب" عندما كانت تتجهز كعادتها ليومها التالي للذهاب إلى المدرسة.. ففي ليلة جميلة تأكدت " العروب" من أنّ زيها المدرسي "مريولها" أنيق كأناقة براءتها.. لم تعلم والدتها بأنابنتها كانت تجهز كفنها، لتعبر به إلى ضفة أخرى.. إلى حياة الخلود لتكون شفيعة لأمها وأبيها.. ولم يدر والدها أن ابنته ستكون ضحية هذا العام لأننا نقدم كل عام ضحايا مختلفة تتشابه فصولها..

عند الباب تطبع "العروب" قبلة الوداع على جبين والدتها .. فتتجه إلى حافلة "الموت" وقبل صعودها تُدير جسدها لتلقي نظرة أخيرة على أمّها وبيت طفولتها.. وحواري قريتها فتلوح بيدها وتدخل إلى الحافلة مع صديقاتها.. بعد عجلة السائق الذي نسى يومًا أنّه كان طفلاتحنو عليه الحياة.. فتشق الحافلة طريقها.. حاملة معها فلذات الوطن وأجيال المستقبل.. لكن السائق يعدهم صفقة تجارية مربحة، لذلك لا يعيرهم اهتمام.. والمشرفة غارقة في همومها اليومية منزعجة من صراخ الطلاب وبراءتهم.. لديها عالم آخر كونها صنفا من البشر.

يقف الباص على مدخل المدرسة.. تنزل المشرفة ويتسابق الأطفال للخروج.. إلا "العروب" التي أخذتها سِنة من النوم فأُغلق عليها الباب والنوافذ وباتت حبيسة الموت البطيء.. بسبب الإهمال والتهوّر وسوء تقدير الواجب وربما النسيان.. لترتفع الروح الطاهرة إلى بارئها مرددة ما تبقى من نشيد في حب المدرسة والمعلمة "ونهتف باسم أمتنا..كلام الله في لغتي... نشيد النور في شفتي.. تعيش تعيش مدرستي".. فتُحمل على الأكتاف يتقدمها نحيب والدها وحسرة والدتها التي تتلوى من شدة الأمر.. لكنّها في قرارة نفسها، تقول: "العروب" لم تمت، ستأتي محلقة كأنّها ملاك في ثوب أبيض حاملة معها شهادة كُتب عليها:"نجحتي وتم نقلك إلى الجنة".. وتنهمر الدموع من أجل الحياة، ليحس من هو في الضفة الأخرى بوجع المدارس والتصرّفات التي أحرقت القلوب.

"العروب" وبراءتها وحقيبتها ورفيقاتها وطاولتها وكرسيها سيفتقدها من يعرف أو لا يعرف شقاوتها وطموحها الذي عاجله الموت والقدر المكتوب مع تعدد الأسباب، لتصبح ضحية من ضحايا اللامبالاة في وضع أسس واضحة لحماية أجيالنا وتوفير لهم مستلزمات السلامة.. هنا ومع هذه الحادثة أرى أولئك الشباب الذي نهلوا من العلم وارتشفوا من أنهاره العذبة يُقدمون ابتكاراً كأنّهم تنبأوا بحوادث الاختناق هذه.

نعم..هناك وفي الضفة الأخرى التي يحلو لي أن أُسميها ضفة الأمان تقبع "سرياء الهنائية" ورفقاؤها في لملمة شظايا الأفكار وترجمتها في مشاريع ابتكارية ينالون عليها براءة اختراع.. فهملا يقلون عن أولئك الذين مخروا عباب التكنولوجيا ليضعوا بصمة تسجل في تاريخ الوطن.. "سكاي ماكس" هي شركة طلابية تحتاج إلى من يقف معها ويضعها في طريق الصواب من أجل الاستفادة من اختراعهم.. وهنا تترابط قضية اختناق الأطفال في السيارات وحافلات المدارس .. والحل يوجد بين أيدينا.. فقط نحتاج إلى تكوين حضن يستوعب هذا الكم من الإبداع، وذلك حتى لا تكون هناك قاصمة أخرى كالتي شهدناها الأسبوع الفائت، فهولاء الشباب قاموا باختراع جهاز يطلق عليه "ميكس" حيث يقوم بحل مشكلة تعانيها أغلب المجتمعات ألا وهي مشكلة نسيان الأطفال في السيّارات وحافلات المدارس مما سبب حالات وفاة في أحياناً كثيرة.
والجهاز يعمل مباشرة بعد إغلاق السياره بـ3 دقائق إذ يقومعلى تحسس وجود الحركة وغاز ثاني أكسيد الكربون في السيارة، فعند وجود الحركة يقوم الجهاز بإرسال رسالة نصيّةإلى أرقام الهواتف المخزنة به كل دقيقة ولذلك لإثبات وجود الحركة بالفعل، ثم يقوم الشخص الذي يستلم الرسالة على تحديد ردة الفعل التي يرغب أن يقوم الجهاز بها وهي أن يقوم الجهاز بإصدار صوت مع ضوء ليجذب الأشخاص القريبين من السيارة، كذلك فإنّ الجهاز يتحسس غاز ثاني أكسيد الكربون كمهمة احتياطية في حال لم تحدث حركة في السيارة أو الحافلة فإنّه يقيس نسبة التغير في غاز ثاني أكسيد الكربون فيقوم بنفس ردة الفعل التي تحدث عند وجود حركة داخل السيارة بالتالي يعمل هذا الجهاز على تدارك بقاء الطفل في السيارة أو الحافلة لفترة طويلة مما قد يسبب مفارقته الحياة، ولحساس الحركة مهمة أخرى وهي التقليل من عملية سرقة السيّارات فإنّ وجود الحركة داخل السيارة يعطي الجهاز إنذارًا برسالة نصيّة للأرقام المخزنة به، كما يعمل الجهاز على إرسال رسالة نصيّة في حال كانت بطاريته على وشك النفاذ وذلك من أجل التأكد من استمرارية عمل الجهاز، ويتميز هذا الجهاز بخفته ويمكن وضعه في أي مكان داخل السيارة (يشترط أن يكون الموضع ليس مغلقا) ويحمل بصمة عُمانية من ناحية الشكل ويكون بالألوان الفاتحة وذلك من أجل تقليل امتصاصه للحرارة.

هناك مشكلة تتعاظم مع إصرارنا على ارتكاب الخطأ وبينها يندس الحل لكننا لا نعيره اهتماما، لذلك ومن أجل تشجيع الشباب لتفجير طاقاتهم فإنّه حريًا بالجهات المختصة أن تتبنى هذا الابتكار وتدفع الشباب على تطويره من خلال إيجاد بيئة متخصصة لهم للاحتفاء بعقول شبابنا لتصب في منظومة المجتمع، وذلك حتى لا تكون هناك ضحيّة أخرى.

همسة:

كيف لي أن أعبّر عن شوقي الذي يزداد يوما بعد يوم..؟ والأوراق ملت من كثر رسم الشوق في منتصفها حتى سال الحبر الأسود على بياضها دون أن يكون واقعاً..فالشوق سيدتي لا يُكتب قبل أن يُفعل.. فالفعل أرقى ترجمة للإحساس الذي يكبر هنا وهناك.

*كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك