اليمن.. آثار تحت لهيب الحرب

167 يوما من الصراع "تريق دماء" الحضارة على أبواب صنعاء

 

 

من أعلى نقطة فوق أسوارها، يُطل برأسه، مُمسكا "الهاون"، مُترقبا أن يلمح طرف أحدهم؛ لينهال عليه قذفا فيُرديه قتيلا.. هكذا هي الحال من فوق قلعة القاهرة الأثرية في مدينة تعز (جنوب غرب اليمن)، ذاك المعلم الأثري الشامخ، الذي أنهكته الصراعات الدائرة على مدى 167 يوما منذ انطلاق "عاصفة الحزم" لتحالف تقوده المملكة العربية السعودية في اليمن.. فالغارات والقذائف التي حصدت أرواح الآلاف ونَزَح على أثرها الملايين، لم تُصب بشرًا فحسب، بل مزقت تراثا ولطخت تاريخا عريقًا لأبناء كنعان.

وفي الوقت الذي يستخدم فيه الحوثيون كثيراً من المواقع المتضررة كأماكن لتجميع مقاتليهم وتخزين السلاح، تسوِّي غارات "التحالف" في المقابل مباني أثرية قديمة في مدينة زبيد، وتدور اشتباكات بين رجال قبائل ومقاتلين حوثيين قرب أثر قديم يقال إنه بُني في عهد ملكة سبأ بلقيس، وتتوالى القذائف من كل حدب وصوب على القلعة العثمانية الموجودة فوق قمة جبلية تطل على مدينة تعز، في مشهد وصفه محللون بأنه "معركة لنسف التاريخ وطمس الهوية اليمنية القديمة".

 

الرُّؤية - هيثم صلاح

 

 

 

وتحذيرا أطلقته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، جديرٌ بالقراءة؛ حيث حذرت فيه الجانبيْن من استغلال المواقع التاريخية في الحرب؛ معتبرة أن الممارسات التي يقوم بها الطرفان (سواءً عن عمد أو جهل بالقيمة الحقيقية للتراث اليمني) إنما هي تدمير حقيقي للتراث الثقافي في اليمن، الذي قالت إنه يضم في طياته هوية وتاريخ وذاكرة الشعب، فضلاً عن أنه شاهد على منجزات الحضارة الإسلامية.

 

إراقة دماء الحضارة

خبراء وإستراتيجيون يقولون بأن ضربَ المساجد والمعالم الأثرية والأضرحة، في صعدة وصنعاء، يعد ضربا من الجانبين عُرض الحائط بقواعد القانون الدولي الإنساني التي تقر الحماية للممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة.. وهو ما ذهبت إليه كذلك منظمة "اليونسكو"، التي اعتبرت أن مباني تاريخية مهمة في مدينة صنعاء القديمة مصنفة ضمن مواقع التراث العالمي تعرضت لأضرار جسيمة منذ بدء هجمات التحالف على اليمن؛ وأن صواريخ التحالف العربي أصابت حي القاسمي في صنعاء القديمة الذي يحتوي على عشرات المنازل التي شيدت قبل القرن الحادي عشر.

المنظمة الدولية لفتت النظر في الصدد ذاته، إلى ضرورة الاهتمام بموقعيْن آخريْن من مواقع التراث العالمي الثقافي في اليمن؛ وهما: مدينة شبام القديمة المسورة (1982)، ومدينة زَبيد التاريخية (1993)؛ باعتبارهما مدرجتين على لائحة التراث العالمي.

وبموجب تلك اللائحة، فإن هذه الآثار محمية من قبل العديد من الاتفاقيات الدولية، وهو ما يتطلب استخدام هذه الحماية لمنع تدميرها؛ فاتفاقية كحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي عرَّفت في المادة الأولى منها، الآثار: بالأعمال المعمارية، وأعمال النحت والتصوير على المباني، والعناصر أو التكاوين ذات الصفة الأثرية..وغيرها. فيما تنص اتفاقية لاهاي للحرب البرية وكذلك اتفاقية لاهاي الموقعة عام 1954م، على حماية الممتلكات الثقافية في وقت الحرب. وقد حظرت المادة 56 من لائحة لاهاي الرابعة كل حجز أو تدمير أو إتلاف عمدي للمؤسسات والآثار التاريخية والفنية والعلمية، وأوجبت اتخاذ الإجراءات القضائية ضد مرتكبي هذه الأعمال.

كما حذَّرت اتفاقيتا جنيف الثالثة والرابعة الموقعتان عام 1949م، وبروتوكولاهما الإضافيَّان الموقعان عام 1977م، من استهداف الآثار، واعتبرت المادة 147 من اتفاقية جنيف الرابعة والمادة 85 من البروتوكول الإضافي الأول أن تدمير واغتصاب الممتلكات على نحو لا تبرره ضرورات حربية وعلى نطاق كبير بطريقة غير مشروعة وتعسفية من المخالفات الجسيمة؛ وبالتالي فهي بمثابة جريمة الحرب التي نصَّت عليها الفقرة 9 من المادة 8 من ميثاق روما لعام1998، والتي تنص على أن تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية، والآثار التاريخية، بمثابة "جريمة حرب"، والتي تعرفها اتفاقية روما بأنها الخروق الخطيرة لاتفاقيات جنيف الموقعة عام 1949 متى ارتكبت على نطاق واسع.

وبحسب خبراء، فإن إدانة هذه الأعمال التي تسعى لمحو تاريخ حضاري عريق لا تكفي، بل لا بدَّ من تحرك فعلي يمنع كلا الطرفين من الاستمرار في نسف المواقع التاريخية في اليمن؛ وهو ما يتطلب عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي (بحسب ما أشار إلى ذلك العديد من الإستراتيجيين والمهتمين بالشأن اليمني)، وإصدار قرار يُؤكد احترام المواقع التراثية في اليمن، وإدانة استهداف غارات التحالف وهجمات الحوثيين للأماكن التراثية.. سيما وأن التخاذل في حماية هذه المواقع، يؤكد تواطؤا لتدمير التاريخ اليمنيالقديم.

العديد من التقارير الدولية المتواترة، طالبت الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية بالمسارعة في منع أعضاء التحالف وكذلك الحوثيين من البناء على سياسة الإفلات من العقاب.. معتبرة أن السعودية (باعتبارها قائدة التحالف الدولي في اليمن) ترتكب جرائم حرب والمسؤولية عن ارتكاب هذه الجرائم يتحملها، إلى جانب الحكومات، الأشخاص الطبيعيون المتهمون بالتخطيط لارتكابها.

ويُشار إلى أن المادة 25 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية، تشير إلى أن "اختصاص المحكمة يطبق على الأشخاص الطبيعيين"، أي المسؤولية الجنائية فردية، وأن الشخص الذي يرتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة يكون مسؤولاً عنها بصفته الفردية، ولكن تبقى (السعودية) مسؤولة في المقابل عن الضرر الذي يلحق بالآخرين نتيجة لأعمالها غير المشروعة، وتلتزم الدولة التعويض عن هذا الضرر على النحو المقرر في أحكام المسؤولية الدولية.

 

إدانات دولية

وعلى ما يبدو أن تقريرا نشرته "النيويورك تايمز" الأمريكية، جدير بالطرح في هذا السياق، والذي أكدت فيه أنه تمَّ طمس موقع تراث حضاري في العاصمة اليمنية صنعاء يبلغ عمره 2500 عام؛ وذلك في غارات للتحالف الدولي. ونقلت الصحيفة عن شهود عيان وتقارير إخبارية أن سبب التدمير هو صاروخ أو قنبلة سقطت من طائرة حربية سعودية.

ونقلت الصحيفة عن كبير مسؤولي حماية الآثار في الأمم المتحدة، أنه عبر عن غضبه بسبب تدمير الموقع الأثري؛ حيث تمَّ تدمير الطوابق المتعددة القديمة والأبراج والحدائق الأثرية، إضافة إلى قتل عدد غير محدد من السكان المدنيين في القاسمي.. وذكرت خلال تقريرها أن إيرينا بوكوفا المدير العام لليونسكو، قالت: "أشعر بالأسى العميق لفقدان الأرواح البشرية، فضلا عن الأضرار التي لحقت بواحدة من أقدم الآثار في العالم، والشاهدة على الحضارة الإسلامية... مصدومة من الصور المدمرة لركام الأبراج والحدائق. هذا التراث يحمل روح الشعب اليمني، وهو رمز للتاريخ البشري أجمع".

ولفتت الصحيفة إلى أنَّ تدمير الآثار الثقافية في منطقة الشرق الأوسط -باعتبارها واحدة من مهد الحضارة- أصبح الآن جزءًا لا يتجزأ من الفوضى التي تهز المنطقة، حيث يقوم تنظيم "داعش" الإرهابي بسلب وتخريب المواقع الآثرية القديمة المهمة في العراق وسوريا.

تعليق عبر الفيس بوك