فداحة الأمطار

حاتم الطائي

دائماً ما تغمر الأمطار عُمان بأجواء من الفرح والسرور، يخرج الناس في جماعات لاستقبال الزخات والقطرات الأولى من ماء المطر مستبشرين فرحين.. الكل يمني نفسه بأن تداعب حبات المطر وجهه، لينشرح صدره وتتهلل أساريره..
وعلى الرغم من جماليّة اللوحة ووقعها على النفس إلا أنّه سرعان ما تودعنا الأمطار وقد خلّفت وراءها كثيرا من الأحزان والأحداث الفاجعة؛ ولتتحول النعمة إلى نقمة ربما بسبب أخطاء في التخطيط الهندسي أو سوء تقدير للأمور الفنية التي بإمكانها تحويل الأمطار مهما كانت شدتها إلى خير عميم يطال اقتصاد الوطن.. وأحيانًا بسبب التعدي على مجاري الأودية، أو تهور واندفاع بعض السائقين أو لاستهتارهم بأرواحهم وأرواح الآخرين.

فجأة ودون سابق إنذار فاجأتنا الأمطار مرة أخرى لا سيما في محافظة مسقط عصر يوم الجمعة الماضية؛ إذ لم نكن نتوقع بالضبط ما هو مقدار هذه الأمطار أو معدل هطولها؛ بل إنّ بيان هيئة الأرصاد الجوية استخدم مفردة "احتمال" في إعلانه الصادر عن سقوط الأمطار؛ الأمر الذي أدّى بالجميع لعدم الاكتراث للأمر؛ على الرغم من تحذيرات البيان الصادر مساء يومي الأربعاء والخميس الماضيين.

ومع العلم بأنّها لم تستمر طويلاً - لحسن الحظ - ولم يتعد زمن هطولها حدود الساعة ونصف الساعة إلا أنّه كان وقتاً كافياً لجريان الأودية وإغراق منطقة الوزارات بالخوير وسوق مطرح في دقائق معدودة، كما أنها أدّت إلى إيقاف الحركة المرورية من وإلى العامرات، فضلا عن غرق العديد من السيّارات خاصة في منطقة الخوير والغبرة ووفاة ثلاثة أشخاص في كل من سوق مطرح ووادي الحوقين..

وعندما خرج الناس عصر الجمعة بعد الأمطار لتفقد ما خلّفته من أضرار أدركوا أنّ العديد من الشوارع قد أغلقت، وتحولت إلى بحيرات وبرك مائية تسبح فيها أعداد من السيّارات.. وهنا لعبت شبكات التواصل الاجتماعي دورها المعهود في نقل الصورة أولاً بأول مع بعض المشاهد التي لا تخلو من مبالغات في بعض الأحيان، والممزوجة بسخرية في أحايين كثيرة، كما تم إطلاق هاشتاج بعنوان أمطار سبتمبر للتعليق على فداحة الأمطار.

وبفضل الله تعالى ثمّ الجهود الكبيرة التي بذلتها شرطة عمان السلطانية بكافة أجهزتها، وسلاح الجو السلطاني العماني؛ تم احتواء الموقف، ونجا الكثيرون من الغرق وربما الموت المحقق، وتقلّصت حصيلة الخسائر بشكل كبير؛ لأن الجميع كان على قدر التحدي وعند الموعد.

إنّ المتأمل في أسباب الأضرار الناجمة عن هطول الأمطار يلحظ سببين مهمين أولهما انتصاب المباني في مسالك الأودية، الأمر الذي يؤدي إلى إغلاق مساراتها الطبيعية والوقوف سدًا منيعا أمام عبورها إلى المصب أو البحر؛ وبالتالي يؤدي ذلك إلى تجمع مياه الأودية في الشوارع والتي هي الأخرى تعاني من ناحية قنوات تصريف المياه، أما السبب الثاني فيتمثل في قلة قنوات التصريف وضيقها؛ فمدينة مثل مسقط تحيط بها الجبال من كل جانب لابد أن تتحول إلى حفرة تنحدر إليها الأمطار من مختلف الجهات، وما زاد الطين بلة أنّ المدينة لا تتمتع بقنوات تصريف مثاليّة، فمعظم القنوات التي فيها قديمة وتحتاج إلى التأهيل والتوسعة، وفوق ذلك أنّها قليلة العدد ولا تتناسب مع الكم الهائل من السكان ولا تمتص الضغط على الخدمات.

لم يعد مقبولا بعد كل هطول أمطار أن تتوقف الحركة والشوارع، ونتكبد خسائر في الممتلكات والأرواح.. ولكم أن تتخيلوا مقدار المعاناة والخسائر إن تصادف هطول الأمطار مع أحد أيام الأسبوع العمليّة - أي أوقات الدوام الرسمية - لاشك أنّ المعاناة ستكون أفدح والخسائر أفظع ما نستطيع تحمله، وسيتعطل دولاب العمل والخدمة المدنية ومصالح الدولة والمواطنين، علاوة على ازدحام الشوارع ووقوع الحوادث المرورية.. ولعلّ من قبيل لطف الله بنا ولحسن الحظ أنّ الأمطار هطلت هذه المرة ظهيرة يوم الجمعة ومعظم السكان في بيوتهم أو بلادهم، والشوارع شبه خالية.. أيضا نحمد الله على أنّها هطلت نهارًا جهارًا وربما لو قدر لها الهطول ليلا لكانت الخسائر أكبر لطبيعة الظلام وصعوبة الحركة ليلا..

ومن باب إحقاق الحق وشكر المجتهدين لابد لنا في هذا المقام أن نشيد بأداء شركات الكهرباء؛ إذ أنّ الكهرباء والمياه لم تتأثر سلبًا جراء الأمطار؛ الأمر الذي يعكس الأدائية العالية لهذه الجهات في كيفية تعاملها مع مثل هذه الأنواء المناخيّة.

كما لابد من التنبيه أيضًا أيضاً إلى بعض الأخطاء والممارسات السالبة والمتهورة من بعض السائقين الذين يغامرون ويجازفون بأرواحهم في سبيل عبور الأودية الجارفة، متجاهلين النداءات والتحذيرات واللافتات التي تحث على عدم إلقاء الأنفس إلى التهلكة، الأمر الذي يكلف شرطة عمان السلطانية وسلاح الجو الكثير لإنقاذ أرواحهم، وهذه مواقف كان يمكننا بشيء من الحصافة والعقلانية تجاوزها وعدم الوقوع في عواقبها غير المحمودة.

ولكن هذا لا ينفي حقيقة تقدم الوعي المجتمعي بالقيادة الآمنة، والحذر عند عبور الأودية حتى في مواسم الجفاف.. فنحن اليوم أحسن حالا من قبل سنوات، والشاهد على ذلك تراجع الحوادث المرورية في شوارعنا.. وانحسار الخسائر الناجمة عن الأنواء المناخية.

إنّ هناك الكثير من الجهود التي تبذل في هكذا مواقف طبيعية، فنحن نملك الدوافع والقدرات المعطاءة التي تتعامل بقدر كبير من الاحترافية والخبرة مع حالات الطوارئ والأمطار والكوارث، كما نملك من الموارد والكوادر البشرية ما هو كفيل بتجاوز أي تحد أو عقبات، والدليل على ذلك ما تمّ تشييده من جسور وسدود خلال السنوات الأخيرة، والتي ساعدت كثيرًا على كسر حدة جريان الأودية وتغذية المخزون الجوفي بكم مقدر من المياه، لا سيما أنّ المياه الجوفية تعتبر مصدرًا أساسيًا من مصادر المياه في سلطنة عمان، ويعتمد عليها كثير من المواطنين والمقيمين، وبالطبع هناك حاجة إلى المزيد من السدود لتعزيز نجاح هذه التجربة.

وهناك أيضًا جهود مخلصة تبذل في تقديم العون والمساندة لكل من يحتاج إلى ذلك خلال هطول الأمطار.. فالتطوير عملية مستمرة لا تتوقف.. ولا ننسى أنّ نجاح مهمة التنمية يرتكز على قيم التكاتف والتآزر بين جميع أفراد المجتمع.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك