قراءة قيمية في ندوة التواصل الحضاري مع الآخر

زينب الغريبية

كنت قد انتهيت من تقدم ورقتي التي قمت بإعدادها بالتعاون مع الدكتور سيف المعمري في مؤتمر "التواصل الحضاري العماني مع الآخر"، هذا المؤتمر الذي تناول التواصل العماني مع العديد من الشعوب في مناطق جغرافية مختلفة ومتباعدة، وفي مراحل تاريخية طويلة، قاد هذا التواصل المؤثر عمانيون واثقون من أنفسهم ومن مهاراتهم وقيمهم التي جعلت الآخرين يحترمونهم، فمن المعروف أنّ التواصل الحضاري يحدث في كل الأحوال حتى في حالات الحروب لكنّه لا يكون مؤثرًا ويولد انطباعات إيجابيّة إلا إن بُني على القيم واحترام الآخر والحفاظ على إنسانيته، هذا لم يأت إلا من خلال ثقة العماني بنفسه حين تواصل مع الآخر، لم يكن مهزوزًا ولا شاعرًا بالنقص، ولا متردداً، ولا متكبرًا، ولا مغرورا، ولا متعالياً، هكذا نعيد استنتاج هذه السمات في شخصيّة العماني الذي صنع مسارات ذلك التواصل الذي تكلم عنه الباحثون المشاركون في هذه الندوة التي جاءت من وجهة نظري في وقتها، لأنّ العالم من حولنا متوتر بدرجة غير مسبوقة، وأبواب التواصل الحضاري تغلق يومًا بعد الآخر نتيجة للكراهية التي تبث شحناتها من كل المنابر الرسميّة والدينية والإعلامية والثقافية، مما يزيد من حدة الصراع، ويؤجج الكراهية، ويجعل الجميع يدمرون أنفسهم وحضارتهم ودولهم وأوطانهم لا شيء إلا لأفكار مشوهة، وعقول سطحية، ونزعات قلقة.

إنّ أهم درس يجب أن نتعلّمه من هذه الندوة البعيدة في الفترة التاريخية التي تتكلم عنها، والكبيرة في المساحة الجغرافيّة التي تتبع صلات العمانيين فيها، والعميقة في الطروحات التي قدمت فيها، هو أننا حين يغلق العالم أبوابه في وجه التواصل علينا أن نبقيها مفتوحة، على كل الشعوب والثقافات والحضارات، لأننا كعمانيين لم نعرف يومًا عادة غلق الأبواب، ولم نعرف عادة إقامة السدود بيننا وبين غيرنا بل تعلّمنا كيف نقيم الجسور التي تصلنا بالآخرين نتعلم منهم ونعلمهم، ونتبادل معهم قيمة مهمة جدا وهي أنّ الإسلام هو دين محبة وإخاء وتعارف وتواصل.

إننا في تواصلنا أثبتنا أننا دائمًا أمّة "ريادة" ليس في نقل الكراهيّة والإساءة ولكن أمّة ريادة في بناء مجتمعات مدنيّة وحضارة، فنحن لسنا أبناء الكراهية إنّما أبناء السلام، ولسنا رسل الحرب إنّما رُسل المحبة، وأنّ الأواصر التي تربطنا مع العالم هي شرايين جسدنا العماني الذي تمتد أجزاؤه في مختلف بقاع العالم، ولابد أن نستمر في ضخ دماء التواصل في هذه الشرايين بمختلف الأشكال الرسميّة والمجتمعية، فعمان لابد أن تظل ملتقى" المحبة الإنسانية"، ويجب أن تظل روحها طاهرة من حالة التلوث الإنساني التي تسود المنطقة..وهذه الغاية هي التي يجب أن نتعلّمها من هذه الندوة التي كان لها دور كبير في إثارة التفكير بصورة كيرة بداخلي - وربما في داخل كثيرين ممن حضروا الندوة- ولا أزال حتى كتابة هذا المقال أفكر وأفكر كيف يمكن لنا كعمانيين أن نحافظ على روح المبادرة التي امتلكها أجدادنا العمانيين من أجل تحقيق التواصل؟ ولا أزال أيضًا أفكر في الشخصيّة العمانية التي صنعت كل هذا التأثير في العالم في وقت كانت فيه الأدوات والوسائل المتاحة أمامهم ربما لا تقارن باليوم؟

أننا أمام تحدٍ كبير في بناء هذه الشخصيّة العمانية بهذه الصفات التي سجلها المؤرخون، وبهذه الهيبة الكبيرة التي تمتعت بها، لأنني على يقين أننا لا يجب أن نكون متأثرين لا مؤثرين في الحضارة الإنسانيّة المعاصرة التي تتباين فيها مصادر القوة بين الثقافات والشعوب، وحتى نكون مؤثرين علينا بالشخصية العمانيّة نقوم ببنائها وفق هذه الصفات، لأننا كشعب صغير لسنا أقوياء إلا بهذه القيم التي تمسك بها أجدادنا، لو فقدنا فلا شيء يصنع لنا أي قوة، وإن لم نحصل على احترام العالم بقيمنا لن نحصل علينا بثرواتنا، هذا ما يجب أن نقرأه من هذه الندوة المهمة، التي لا تزال كلمات الباحثين تؤكد على هذه القيم وهذه الجرأة التي امتلكها العمانيّون سياسيين وتجارًا وأفرادًا عاديين، واليوم لابد أن نستحضرها ونسعى لتأكيدها متعاونين غير متفرقين، متفقين غير متصارعين، فلا يصنع الهيبة الوطنية إلا جهد مشترك، ولذا أجد نفسي معنيّة بنقل قيم هذه الشخصية إلى العالم، حيث ضمنتها في ثلاث عشرة قصّة قمت بتأليفها للأطفال وقدّمتها في مجموعتين هما "أحب وطني"، و"نحن هنا"، وعملت بجهد ذاتي على ترجمة الأولى إلى اللغة البرتغاليّة والإنجليزيّة وجار العمل في الترجمة الفرنسية، وكما من ضمنها قصة بعنوان "كلنا أخوة" تركت تأثيرًا كبيرًا في كل من اطلع عليها، لأنها تعكس سيطرة قيمة التسامح على حالة التواصل الداخلي العماني، مما يؤثر إيجابًا في التواصل مع الآخر تاريخيًا، وكان لها أكثر من مائة وعشرين ألف مشاهدة في الأسبوع الأول الذي وضعتها فيه في موقع اليوتيوب، وسوف أسعى للتأسيس لأدب أطفال يرسخ قيم التواصل والريادة والعزة لأطفال عمان، هذا هدف سوف أواصل العمل لتحقيقه بغض النظر عن الصعوبات التي تواجهني، لأنّ هذه الندوة زادت من قدرتي على التحدي، وعلمتني أنّ العماني لا يمكن أن يستسلم لأيّ عقبات، وإن شعر لحظة بالضعف فعليه أن يقرأ في تاريخ أجداده الذين لو استسلموا يوما لما حظينا بكل هذه الحضارة والمكانة التاريخية في هذا العالم، ولا أزال أذكر كلمات الباحث الجزائري الذي شارك في الندوة وقال ندين بالفضل للعمانيين في نعمة الإسلام التي ننعم بها وفي تعلمنا العربية وتماسكنا.

هذه قراءة قيمية إنسانيّة لما دار في هذه الندوة التاريخية، ورسالتي بعد هذه الندوة لكل العمانيين هي أننا نحمل مسوؤلية كبيرة نحو تاريخنا..لا أحد يمكن أن يُستثنى من حملها..فنحن شركاء في الحاضر وشركاء في الحفاظ على الماضي.. ويجب ألا تجعلنا الحياة المعاصرة نفقد أصالتنا ولا أن نفرط في كنزنا القيمي الذي لمسه القاصي والداني.

تعليق عبر الفيس بوك