الإنسانية تغرق

حميد بن مسلم السعيدي

Hm.alsaidi2@gmail.com

يا أيها البحر لا تبكي وتبكينا

وابلع دموعك إنّ الدمع يؤذينا

متى ستعرف أن الموج موطننا

فليس من بلد البر يأوينا

نشعر بالألم والأسى والحسرة حيث تتأسى نفوسنا من مشهد الموت للبراءة على شواطئ الأمل بغيّة البحث عن أرض السلام، وهرباً عن الإنسانية التي ما عادت لمبادئها وجود، ولم تُعد لقيمها وإنسانيتها مكان، فقد غرقت قبل أن يغرق ذلك الطفل، وانكشفت تلك التمثيلية التي نحاول أن نخدع بها الآخرين بأننا أصحاب رسالة سامية تنطلق من كلمة "السلام عليكم" ولكنّها كانت قناعاً زائفاً نحاول أن نوهم به العالم، ولكن اليوم تلك الأقنعة ذابت وتلاشت وظهرت الأوجه الحقيقية، تلك الحادثة التي تقاذفت بها أمواج البحر جثمان ذلك الطفل كشفت تلك الحقيقة، فقد أبى البحر بمروته أن يبتلع تلك البراءة مثل ما ابتلع الإنسان براءته وطفولته، حيث غرقت كل مبادئ الإنسانية وقيمها على أمواج البر ولم يبق منها إلا السراب، وقبلها غرقت مبادئ العقيدة الإسلامية التي ننتمي إليها، فما يحدث اليوم هو صورة شبيهة بعصور الجاهلية الأولى التي كان يسودها الظلام والصراعات والحروب والتفرقة وسيادة الظلم وغياب العدالة، وهذا ما يذكرنا بحرب البسوس التي اشتعلت بسبب ناقة ويومها صاحت البسوس "واذلاه ! واجاراه!" واشعلت حرباً استمرت أربعين عاماً، واليوم التاريخ يعيد بناء نفسه؛ حيث تظهر البسوس ذاتها ولكن بأشكال مختلفة وبصوت أقوى وأشد وتراً، حيث كان للإعلام السياسي خلال الفترة الماضية دور في اضرامالحروب في منطقة الوطن العربي، بل كان يسيّس الأحداث ويفربكها وفقا لمصالحه الخاصة، مما هيّجت الناس وولدت فيهم مشاعر الاحتقان والغضب ودفعتهم للقيام ضد حكامهم وشعوبهم فسادت الفوضى وانتشر القتل ومظاهر سفك الدماء والغلو والتطرف، لم يقف الأمر عند هذا المستوى فكانت البسوس تظهر في منبر الدين؛ والذي كان يفترض أن يكون لصوت الحكمة والتسامح فقط لكنّه أصبح صوتا للجهاد والدم وإشعال نفوس للذهاب لتحرير البشريّة وإصدار فتوى القتل حباً للدماء وحبًا لمظاهر إزهاق الأرواح وقتل الأطفال وسبي النساء، بل وصل الحال لإصدار فتاوى متعددة تشجع على الجهاد ومنها جهاد النكاح وإجازة المُحرمات في منطقة الحرب، مما أدى لنزوح أفواج من الزنادقة والمرتزقة والإرهابيين للذهاب إلى بلاد ليس ببلادهم والمشاركة في حروب ليست حربهم، إنّما للبحث عن المال والنساء، تحت دعم مالي يقدم من قوى متعددة لتحقيق أهداف سياسيّة ودينية ومذهبية على حساب الإنسانية، وليس حباً في تلك الشعوب وإنّما فقط لإقناع غرورهم وجبروتهم، وضرب كل المبادئ والقيم والمواثيق الدولية عرض الحائط.

وفي ذات الوقت ننادي بوجه آخر أننا أصحاب عقيدة إسلاميّة قائمة على التسامح والحكمة، ومنهجنا نابع من قيم ومبادئ إنسانية تنطلق من عقيدة وضعت الأسس والمبادئ العامة التي تمجد المثل العليا والآداب الرفيعة، وتنظم المعاملات بين الأفراد، وتقرر مبدأ حقوق الإنسان، وتضع أسس الحرية والإخاء والمساواة والتسامح الديني والتعايش الإنساني، ولكن هذه المبادئ ليست مجرد أمنية تهفو إليها النفوس، وليست فكرة مثالية يتخيّلها البعض، وليست فكرا إعلاميا، وإنما عقيدة سماوية ورسالة سامية هدفها بناء الإنسان الحر، تحت ظل راية العدل والسلام، ولكن كل هذا تقاذفته أمواج البحر وقذفت معها الصفة التي وصف الله بها أمة محمد بخير الأمم، فلم نصبح كذلك بعد اليوم فقد تشوّهت صورة الإسلام وأصبحت الصورة المرتبطة بها صورة قطع الرقاب وسبي النساء وقتل الأطفال باسم الدين فأي دين هذا الذي لا يرتبط بالإسلام، ويقول الله تعالى "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ" سورة آل عمران (110)، في هذه الآية الكريمة خيّر الله عزوجل أمة محمد على سائر الأمم ليس لأنهم يؤدون الفرائض الدينية ويؤمنون بالله وإنّما لأنهم أصحاب رسالة سامية قائمة على عقيدة سماوية، مبنية على الصيغة الإسلامية للحوار الذي ينطلق من فكر "السلام عليكم" هذه الكلمة التي كانت بداية للحوار مع الآخرين من منبع نشر السلام أولاً كمنطلق وسمة رئيسية للمسلمين انطلاقا من الأمر بالمعروف ونشر السلام العالمي والنهي عن المنكر وهي الطريقة السليمة التي يتم بها تصحيح الأخطاء أيا كان نوعها سواء كانت شرعية، أو دينية أو اجتماعية، وهذا هو منطلق العقيدة الإسلامية التي جاءت لتنظم حياتنا في كافة المجالات، إنه المنهج الرباني القائم على نشر الفضائل العليا من منطلق الإيمان بالله "وتؤمنون بالله" لذا فالأخلاق الإنسانية التي لا تتغير عبر الزمان ولا ترتبط بقوم دون آخرين وإنما هي فطرة إنسانية متى ما ظهرت سلوكيات خاطئة فإنها ترفضها وتنبذها.

ولكن اليوم فقدنا كل هذه القيم والمبادئ وأصبحنا نعايش التناقضات المختلفة؛ فما نؤمن به يختلف مع الواقع الذي نتعايشه لذا ينظر العالم اليوم للمسلمين نظرة سيئة، فما أحوجنا اليوم لخلع عباءة الجاهلية والعودة لتلك العقيدة الإسلامية التي أرادها الله لأمّة محمد لتقوم برسالتها في نشر الإسلام الحقيقي في ظل التسامح والسلام العالمي، في زمن أصبح فيه مصطلح السلام والأمن أمنيةً نادرة وحلمًا لدى شعوب المنطقة، فهل نظل نحلم بالأمنيات؟ أم أنّ محطة الموت لا تحتاج لتذكرة، فالرحيل أهون من البقاء في زمن الحرب، كما تصفه الشاعرة فاطمة في رثائها للطفل "ايلان الكردي":

استلقي يا صغيري ولا تخف..

لا الآلام ولا الأحزان سترهقك..

تعليق عبر الفيس بوك