أزمة نفايات

رحاب أبو هوشر

نتج عن أزمة "النفايات" في لبنان مظاهرات شعبية حاشدة، ما زالت دوائرها مرشحة للتوسع والامتداد خارج العاصمة بيروت. عنوان الأزمة كان صادما، ومفارقا لما "اعتدناه" من أزمات حادة في لبنان، من قبيل التفجيرات والاغتيالات والاشتباكات المسلحة بين الجماعات السياسية والطائفية، ناهيك عن عدوانات "إسرائيل" المتكررة، وهي الأزمات التي لم تنقطع عن لبنان طوال السنين الماضية. كيف تتراكم النفايات في بلد يتوفر على دولة ونظام سياسي تتفرع عنه سلطة تنفيذية بمؤسساتها وأجهزتها الموجودة لإدارة شؤون البلاد ومواطنيها؟ أين ذهب جهاز الخدمات العامة؟ ولماذا لا يقوم عمال النظافة بعملهم؟ لم يكونوا في حالة إضراب للمطالبة بتحسين أجورهم مثلاً، مما يفسر شلل العمل، فهل اختفوا بين يوم وليلة، وتركوا اللبنانيين محاصرين بمكرهة النفايات في هذا الصيف الحارق؟.

حالة سوريالية التقطها اللبنانيون الساخطون، مع احتفاظهم بخصوصيات لهم في التعبير، وردوا على أزمة "النفايات"، بسخرية لاذعة الأسلوب والمضمون، وعنونوا حملتهم الاحتجاجية بـ "طلعت ريحتكم". العنوان الذي هاجموا به الطبقة السياسية الفاسدة والمنفصلة عن الواقع. مسرحية كوميديا سوداء، تابعناها ولم تزل عروضها مستمرة، تنطوي على تفاصيل تذكرنا بمسرحيات "الرحابنة" النقدية الساخرة، وبالطبع ليس بوصفها مسرحية فنية، بل بقدرة الواقع الرث على إنتاج كوابيس تفوق إمكانيات الخيال، فأزمة "النفايات" الامتداد الواقعي لمسرحية مثل "ميس الريم"، بثيمتها الأساسية "هالسيارة مش عم تمشي". مسرحية مضى على إنتاجها أربعون عاما، ازداد خلالها سوء حال لبنان والعالم العربي كله، وفشلت كل محاولات إصلاح السيارة المتعطلة، في إعادة الحياة لمحرك تآكل من شدة الصدأ!.

قراءات سريعة للأزمة، سطحت حراك اللبنانين، واعتبرته مطلبياً في شعاراته وخدميًا في جوهره، بأنّه مجرد احتجاج عشوائي على تكدس النفايات في شوارع بيروت وبين بيوتها، بغرض الضغط على الأجهزة المعنية للقيام بأعمال التنظيف ثم ينتهي كل شيء، بمعنى أن الحراك لم يرفع شعارات تتعلق بالأزمة السياسية أو يعكس وعياً بها، وبالتالي فهو لا يمثل حراكاً سياسياً، ولكن الحراك الذي اتسع وتطورعلى نحو دراماتيكي، سارع إلى إمساك رأس الأزمة، ورفع شعار إسقاط النظام الطائفي والمطالبة بدولة مواطنة مدنية. وعلى أي حال، فهذا ليس الحراك الأول، وسبقه مطلع "الربيع العربي"، خروج تيارات شبابية مدنية متظاهرة لإسقاط النظام الطائفي، إلا أنه بقي حراكا محدودا ولم يستمر لاعتبارات التركيبة الطائفية ذاتها، بمخاوفها وشكوكها ومصالحها.

من البديهي أنّ المفاهيم السياسية نتاج ينظم احتياجات الشعوب ويعكس إرادتها ومطالبها، فالوضع المعيشي للمواطنين، لا ينفصل عن الحالة السياسية لأيّ بلد. واللبنانيون علاوة على معاناتهم من الفوضى الأمنية وميليشيات "الحارات" الطائفية، فإنّهم يعانون من بنية تحتية تزداد سوءا، في الكهرباء والماء وغيرها، وهذه كلها خدمات معيشية أساسية، يعد توفيرها من واجبات الدولة، المتفرقة بين الطوائف وزعاماتها. إما أن تتكدس النفايات في عاصمة، ولا تقوم "البلدية" وعمالها بعملهم تحت ضغوط أطراف سياسية واستجابة لمناكفاتها، فهذا يبين مدى اهتراء بنية المؤسسات والأجهزة. الدولة غير موجودة، عندما يتعذر تحديد المسؤول ومسؤولياته، وإذا توقفت عن ممارسة مهماتها وأدوارها تجاه المجتمع، أو إذا صارت مؤسسات تقدم خدماتها أو تحجبها وفق الصيغة الطائفية.

أزمة "النفايات" بشقيها المادي والمعنوي، تمثل ترميزا عميقا وكثيفا للواقع السياسي المفكك في لبنان، وغياب الدولة مفهوما ومؤسسات، وكم العبارات القاسية وغير المألوفة، والشعارات الحارقة المرارة التي خرج بها اللبنانيون، تعكس انفجار غضبهم ونفاد صبرهم تجاه المسؤولين عن هذا الانهيار، فأن يتبادل الوزراء المعنيون الاتهامات، ويتنصل كل منهم من مسؤولية وزارته عن الأزمة، تعبير واضح عن عمق الأزمة السياسية التي يعيشها لبنان، منذ انتهاء الحرب الأهلية باتفاق الطائف الذي كرس تركيبة النظام الطائفية. هذه التركيبة التي غذتها ودعمتها قوى إقليمية ودولية لها مصالحها في لبنان والمنطقة، واستثمرت في لبنان "الطائفي" دائما لحروبها بالوكالة وإدارة صراعاتها، بالإضافة إلى زعامات الطوائف المستفيدة من استمرارية النظام، وأزمة "النفايات" أفصحت بشكل نادر عن إجماعهم على مهاجمة الحراك، والتشكيك بأهدافه وارتباطاته. أشعرهم زخم الحراك بالخطر وبأنّه يشكل تهديدًا جديًا لاستمرارية طائفية، كل منهم كان يدعي رفضها. لكأن قدر لبنان أن يكون مسرحًا عربيًا، مرة من خلال "الرحابنة" الذين أغنوا الحياة الثقافية العربية بإبداعاتهم المسرحية وأغنيات السيدة فيروز، ومرات كان مسرحا لحروب إسرائيل والغرب والآخرين ضدنا. وهذه المرة كان مسرحا يكثف الحالة العربية من خلال الواقع اللبناني، وهل الوضع العربي الراهن، بحروبه وتمزقه وطائفيته، إلا "أزمة نفايات"؟!.

تعليق عبر الفيس بوك