دراسة تحقق في أسباب إخفاء أعمال أحمد بن ماجد في القرن الـ15 وحضورها البارز في القرن العشرين

أصْدَرت هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية"سلسلة البحوث والدراسات في الوثائق الوطنية والدولية 6-7"، والتي تمثِّل امتدادا لسلسة البحوث والدراسات التي أصدرتها الهيئة؛ انطلاقا من اهتمامها برفد المكتبة المحلية والعالمية بالإصدارات التي تخدم الباحثين والدارسين، وتكشف الكثيرَ من الحقائق. وتشمل السلسلتان دراسة منهجية حول شخصية أسد البحار العماني أحمد بن ماجد في جزءين؛ الأول: يشمل دراسة تاريخية ووثائقية وأدبية ولغوية، والثانية: تُبرز شخصية البحار العماني في دراسات الأوربيين والمستشرقين.

وتمثِّل السلسة السادسة مفتاحا رئيسيا لفهم شخصيته الفذة؛ فهو منظِّر علم الملاحة العربي وصاحب الاكتشافات الجغرافية، وواضع نظريات جدَّدت رؤية الجغرافيين القدامى إلى المحيط الهندي، ومُبتكر المصطلحات العربية في علوم الملاحة. وتكشف الدراسة الكثيرَ من المعلومات الموثقة عن شخصيته ونشأته وعلمه ومكانته في تطوُّر علم الملاحة وأهم إضافاته، وأعماله الحقيقية، وطبيعة مصنفاته وما حدث لها، وكيف قدمت إلى الساحة العلمية؟ كما تكشف الدراسة سبب اختفاء أعماله أو إخفائها من القرن الخامس عشر وحضورها القوي في القرن العشرين؟ كما تُظهر حقيقة التشويه الذي نالته هذه الشخصية والاتهامات التي تعرضت لها، وكيف أثبت البحث المنهجي براءة ابن ماجد منها.

مسقط - الرُّؤية

ويبدأ الإصداران بمقدِّمة لسعادة الدكتور حمد بن مُحمَّد الضوياني رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، الذي قام بتحقيق وتحرير الإصدارين برفقة أ.د وفيق كيليني خبير الهيئة، الذي ذَكَر من خلالها أهدافَ الاستعانة بدراسات الباحثين والمفكرين من جميع أنحاء العالم لتحرِّي الموضوعية في الطرح، وعرض البحوث والدراسات التي تغطي فترات تاريخية متعددة، ومن عدة وجهات: أكاديمية وعلمية مختلفة، وتوثيق هذه الدراسات بما تملكه الهيئة من وثائق لإعطائها المصداقية اللازمة؛ ليقوم الباحث المكلف من هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية أ.د محمد بن قاسم ناصر بوحجام من قسم اللغة العربية وآدابها كلية الآداب واللغات جامعة الحاج الأخضر باتنة الجزائر، بعمل الدراسة؛ مُستعينا بالمصادر المحلية والدولية حتى يفتح المجال للباحثين والعلماء والمفكرين والقراء للتعرف على الحقائق وتحليل المواقف التاريخية والعلمية والأدبية من منظور ومنهج علمي وإنساني. وذكر سعادة الدكتور في التقديم، حول تفاعل العمانيين مع العالم الخارجي من الشعوب والحضارات والثقافات؛ حيث أثروا فيها وتأثروا بها، في المجالات البحرية والعلمية والثقافية؛ ومنها: الأدب والشعر؛ فكان العمانيون مُنفتحين على الآخرين؛ فكان لهم تأثير إيجابي مع الشعوب التي اندمجوا معها، وكذلك على الحضارة العمانية.

وأضاف سعادة الدكتور في مقدمته: "بإسهام العمانيين بإنجازاتهم العلمية والبحرية والفلكية والثقافية والأدبية على امتداد تاريخ عمان الطويل في صنع حضارة، ما زالت حية ومؤثرة في تاريخ الحضارة المحلية والعالمية والإنسانية"، مبينا دور أسد البحار العماني أحمد بن ماجد -موضوع الدراسة- الذي يُعدُّ من أكبر ربابنة البحر في عصره والخبير في علوم الملاحة والفلك، والذي جمع بين الجانب النظري والعلمي في الجغرافية البحرية؛ فكان ذلك إضافة مثريه من المعلومات إلى ما قدمه العلماء والبحارة السابقون. وفي ختام مقدمته، تطلع سعادة الدكتور رئيس الهيئة إلى أن تكون هذه الدراسة الجادة عونا للباحثين والدارسين والمهتمين بالجوانب التاريخية والملاحية والشعرية والأدبية والسياسية والاقتصادية في آسيا وإفريقيا ودول العالم أجمع.

وجاءت دراسة هذه الشخصية العمانية المؤثرة في ميدان العلم والتجارب الملاحية والجغرافية في جزءين، اتسما بالموضوعية لما احتواهما من وثائق تاريخية قدمتها هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية لتدعم موضوع البحث، وتأكيد مصداقيته العلمية، كما تناولت وجهات نظر وتحليل الأوربيين والمستشرقين في دراسة شخصية أسد البحار العماني.

وتناولتْ الدراسة في جزئها الأول الجوانب التاريخية والوثائقية والأدبية واللغوية لأحمد بن ماجد (السلسلة السادسة)، واشتملتْ على 3 أبواب رئيسية؛ الباب الأول بعنوان "حياة أحمد بن ماجد وشخصيته" والذي انقسم بدوره إلى سبعة فصول؛ تحدثت الدراسة في فصلها الأول حول نسب ابن ماجد وأسرته، والثاني تناول عصره وبيئته، أما الفصل الثالث فحول نشأته وآثارها على تكوين شخصيته، والرابع درس ثقافته ومصادرها ومعارفه الفلكية، والفصل الخامس تناول شخصيته وأهم ما يميزها؛ حيث التديُّن والغيرة على الإسلام كما عُرف عنه، وحبه الشديد للأصول التي ينتمي لها وإحساسه بعلو قومه وقوة الفكر الذي ينتمي إليه، كما يتميز بحبه الشديد لمهنته؛ متمسكا بالأهداف التي يرسمها لحياته واستنبط ذلك من أراجيزه، كما تميز بالعديد من الخصال الحسنة كحبه للعلم وثقته بنفسه واعتماده على تجاربه الخاصة، والفصلان السادس والسابع تواليا حول تجربته ونظرياته الملاحية، ومكانته كملاح عربي عماني؛ حيث أحيا ذكره العالم والشاعر والأديب التركي الأميرال علي بن حسين حلبي الذي جمع الكثير من الإرشادات البحرية في كتاب واحد واسماه "الجامع" عام 1554م، ليكون موسوعة في معارف الملاحة، والذي يُعدُّ الوثيقة التي تعرَّف من خلالها علماء أوروبا على المرشد البحري العماني أحمد بن ماجد، والذي قال فيه الأميرال: "إنه باحث عن الحقيقية من بين الرحالة البحريين وأكثر المرشدين والبحارة في غرب الهند مدعاة للثقة في القرنين الماضي والحاضر"؛ حيث إنَّ مؤلفات ابن ماجد انتشرت في العالم خاصة في آسيا وأوروبا؛ حيث إنَّ فضلة يقر به العارفون العالمون الحقيقيون.

وركَّز البابُ الثاني على مُؤلَّفات ابن ماجد، وتعد مصنفاته مرجعا فريدا في العالم للعلوم البحرية في القرون الوسطى، خاصة فيما يتعلق بالمحيط الهندي والبحر الأحمر والخليج العربي، وسجل حافل بالمعارف البحرية والجغرافية والحضارية عن سواحل إفريقيا الشرقية وجزيرة العرب وجنوب آسيا وجنوبها الشرقي؛ فقد كتب البحار العماني الفذ العديد من الكتب والرسائل والأراجيز في علوم البحر وفنون الملاحة والمعارف الجغرافية، والتي استفاد منها الملاحون الأجانب؛ حيث احتوى الباب على ستة فصول توزَّعت بين بحث معارفه الجغرافية والفلكية وعلوم الملاحة؛ فالفصل الأول أعطى البحث فيه إشارات حول أعماله الفلكية والملاحية وجهوده في تطوير الملاحة. أما الفصل التالي، فتناول معرفة البحار العماني الملاحية ومكانتها في عصره، والفصل الثالث قدَّم عرضا للمعارف التقنية في ملاحة أسد البحار، والفصل الرابع جاء ساردا للمعارف الجغرافية والفلكية والملاحية؛ حيث برز فيها بقوة وكفاية عالية، وقدم فيها أعمالا علمية متميزة وسجل فيها قواعد وحدَّد ضوابط في التعامل مع البحر، وتناول الفصل الخامس بيان طبيعة مؤلفاته، والسادس أعطى مجموعة من القوائم التي سجلها الدارسون لمؤلفاته، وعلق عليها البحث.

وعنون الباب الثالث لهذه السلسلة بـ"تحليل بعض مؤلفات ابن ماجد"؛ والذي توزع إلى سبعة فصول، قدمت في فصولها الخمسة الأولى جانبا من الملاحظات والإشارات التي قدمها بعض الدارسين حول أراجيز ابن ماجد، بالتركيز على حاوية الاختصار في أصول البحار (ابن ماجد 2010)، وثلاث أزهار في معرفة البحار (ابن ماجد 1996)، والسُّفالية وأخبار الفرنج (البرتغاليين)، وكتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد. وفي الفصل السادس بيّن البحث مصادر معارف ابن ماجد في مؤلفاته، والفصل السابع قدَّمت من خلاله الدراسة تحليلا حول لغته وأسلوب مؤلفاته.

أمَّا الجزء الثاني من أسد البحار العماني، في السلسلة السابعة للبحوث والدراسات في الوثائق الوطنية والدولية؛ فتناول البحث في دراسات الأوربيين والمستشرقين لأسد البحار العماني، وانقسم إلى ثلاثة أبواب؛ اشتمل الباب الأول -والذي تخصَّص في ذكر أعمال ابن ماجد في الدراسات الأوربية- على ثلاثة فصول؛ الأول كان عن المستشرقين الفرنسيين وأعمال ابن ماجد، والثاني عن الدراسات الإنجليزية وأعمال ابن ماجد، والفصل الثالث عن الدراسات السوفياتية وأعمال ابن ماجد؛ حيث تضمَّنت هذه الفصول وثائق لباحثين من هذه الدول تذكر فصولا من أعمال ابن ماجد وبراعته الملاحية والجغرافية وإتقانه علوم البحر.

وركَّز الباب الثاني على علاقة ابن ماجد بفاسكو دي غاما، والذي قسمه الباحث إلى أربعة فصول؛ الأول منها ذكر عرضا حول رحلات فاسكو دي غاما، والذي مهد فيه الباحث للتفصيل في قضية الإرشاد لسفينة دي غاما. أما الفصل الثاني فتطرق البحث لوجهة نظر المستشرقين السوفييت في القضية، وجاء الفصل الثالث مُبيِّنا لقضية الإرشاد في المصادر البرتغالية، والفصل الرابع حول معالجة الباحثين العرب للقضية.

وركَّز موضوع الدراسة في الباب الثالث عن ابن ماجد وشرق إفريقيا، التي أفادت المنطقة كثيرا من علم ملاحته، وتبحث الدراسة لهذا الباب في أربعة فصول؛ تناول الأول منها: اهتمام ابن ماجد بشرق إفريقيا، والباب الثاني حول ما ذكر ابن ماجد في مؤلفاته عن شرق إفريقيا، والفصل الثالث: معلومات ابن ماجد الجغرافية والملاحية لشرق إفريقيا، والفصل الرابع معلومات ابن ماجد الاقتصادية والتاريخية، وأثر ابن ماجد على شرق إفريقيا، والذي تمثل في تقديمه تصوُّرا عامًّا عن شرق إفريقيا في مُختلف الجوانب بناءً على ما شاهده؛ فعمد إلى تصويب الأخطاء والممارسات الملاحية الخاطئة، كما قدَّم لهذا الجزء الكثير من علم الملاحة البحرية والتجارة فيها ما يُعين الباحثين على معرفة الكثير من جوانب النشاط التجاري والملاحي، وطوَّر بعض الآلات الملاحية. كما قدَّم معلومات دقيقة عن أحوال الملاحة في شرق إفريقيا، وبين القياسات التي يجب اتباعها في تحديد الطرق بوصف دقيق وبمعلومات توضح المجرى الصحيح ومدى عمق المياه فيه...وغيرها من الآثار التي أصبحت مرجعا مهما لدراسة هذه المنطقة.

وفي ختام دراسة شخصية الملاح العماني، خرج الباحث بمجموعة من التوصيات والمقترحات؛ أهمها: إقامة ندوات موسعة لدراسة بعض المشكلات التي تعترض البحث في شخصية ابن ماجد، وإعداد مخطط للبحث عن أعماله المنتشرة في مختلف الأماكن من العالم في الدول والمكتبات العامة والخاصة، وكذلك البحث في مكنونات تراث أسد البحار العماني، لوجود تراثه موزعا في أقطار مختلفة من العالم، وتوسيع البحث في آثاره على الملاحة الأجنبية. وأكد الباحث أيضا على ضرورة القيام بمزيد من الدراسات حول منظومات ابن ماجد التي حوت معلومات مهمة عن الشؤون الملاحية والبحرية والفلكية.

تعليق عبر الفيس بوك