السلام في الفكر السياسي للسلطان قابوس

سعيد البلوشي

خلال تصفحي لمواقع التواصل الاجتماعي، لم اندهش أبدًا بأن تكون هناك مطالبات كثيرة بترشيح جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- للفوز بجائزة نوبل للسلام- هذا إلى جانب الجوائز التي حصل عليها سابقًا-.

وعلى الرغم من أنّ الجائزة في حد ذاتها ليست الأمر المهم، ولا يُغير الحصول عليها أو عدمه من واقع الحال، فالسلطان قابوس يبقى رجل السلام في عالم اليوم، والسلام كان دائمًا حاضرًا بقوة في فكره السياسي وسط هذا الكم من الحروب وعدم الاستقرار، الذي يشهده العالم، فالرجل بشهادة الجميع من سياسيي العالم ومن الصحفيين والمحللين والمراقبين السياسيين يحمل تاريخًا طويلاً وسجلاً حافلاً في مساعي السلام وإرساء مبادئ الصداقة والوئام بين الدول. ولعل ما ميّز مسيرة السلطان قابوس هو شجاعة جلالته وإقدامه على التدخل السريع في الوقت المناسب أو عندما يرى وهو الثاقب الرؤية أن الخطر أصبح داهمًا، وعادة تكون مبادراته خالية من التردد ولو لوهلة، مما يدل على الثقة في اتخاذ ما يراه ضرورياً لإبعاد الخطر الداهم. كل تلك الصفات نالت إعجاب المشككين والمترددين الذين كانوا ينظرون إلى الأمر بطريقة مختلفة قبل المهتمين، فالأيام أثبتت دائماً أنّ رؤاه وسياساته ومساعيه في معالجة القضايا السياسية المعقدة التي استعصى حلها على الآخرين كانت دائمًا في محلها مضمونًا وتوقيتًا.

وأنا أقرأ عن تاريخ رجال السلام من السياسيين وغير السياسيين، الذين حازوا على جوائز نوبل للسلام، بدءًا من جان هنري السويسري وفريدريك باس الفرنسي في عام 1901، الأول من مؤسسي اللجنة الدولية للصليب الأحمر والثاني كمؤسس رئيسي للمؤتمر الدولي للسلام، مرورًا بكل الحائزين على الجائزة من فطاحلة الساسة والشخصيات العالميين، وصولاً إلى عام 2014 الذي ذهبت جائزته للطالبة الباكستانية الناشطة الاجتماعية مالالا يوسف زاي والناشط الهندي في حقوق الأطفال كايلاش ساتوراتي، لم أجد منهم سياسيًا أو شخصية أو رجل دولة استطاع أن يجمع بين السلام والوئام في الوطن الأم وبين المساعي الناجحة على المستوى الإقليمي والدولي، مثل ما فعل جلالة السلطان قابوس، سلطان عُمان.

لقد جعل احتفاظ عمان وكما هو الحال دائمًا بعلاقات جيدة مع دول العالم ومع أطراف النزاع دون تمييز منها لاعبا نزيها ومقبولا من جميع الأطراف، وعلى قدر عالٍ من الثقة المتساوية بينهم، الأمر الذي ساعدها في حلحلة الأزمات المستعصية. حيث ساهم احتفاظ عمان بعلاقات جيدة مع العراق وإيران على سبيل المثال في إيقاف الحرب الإيرانية العراقية، تلك الحرب المدمرة التي قتلت ما يفوق المليون إنسان وكانت ستزهق أرواحا أكثر وتستمر لسنوات أطول إذا لم يتم التوصل إلى حلول لها. وإذا عرجنا إلى ملف سياسي آخر كليا ورجعنا تاريخيا إلى الوراء قليلا نرى أن العرب بعد سنين عدة أيقنوا أن السلطان قابوس كان على حق في موقفه من معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، عندما لم يتردد في تأييده لمصر رغم المعارضة والمقاطعة العربية. إن العرب في أيامها لو لم يضيعوا فرصة اتفاقيات كامب ديفيد التاريخية التي أتت بعد الانتصار في حرب 73 لوفروا على أنفسهم سنينا عجاف من مباحثات سلام، فتلك المعاهدة كانت تحمل من بين بنودها قرارات لو قوبلت بإيجابية من دول المواجهة لكان العرب اليوم في حال آخر وفي موقف سياسي أفضل، خاصة وأن الرئيس السادات يومها كان لا يريد المساومة كما وضح ذلك من خلال اتصالاته المختلفة مع العرب، بل كان يريد تطبيقا كاملا لقرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967 بكل أجزائه كأساس للحل وكذلك قرار 338. أخواننا الفلسطينيون الذين عانوا ويعانون سنين طويلة ومضنية من مباحثات سلام لا طائل من ورائها غير تكريس الاحتلال والاستيطان؛ كانوا سيكونون من أكثر المستفيدين من كامب ديفيد في رأيي، ولربما لم نكن بحاجة لا إلى معاهدة مدريد ولا إلى اتفاق أوسلو القائم على مبدأ السلام مقابل الأرض وما تلته من اتفاقيات بدءًا من اتفاق غزة أريحا، وادي عربة، طابا أوسلو2، واي ريفر1 و2 وبعدها خارطة الطريق والحل على أساس الدولتين، ثم الحديث عن حل على أساس الدولة الواحدة، ثم مبادرة السلام العربية. كل ذلك ومستقبل السلام لم ير بصيص أمل حتى الآن، أصبح السلام علينا العرب عصيا وشيمتنا في ذلك الصبر والانتظار.

وإذا رجعنا إلى الحاضر وأتينا إلى الملف النووي الإيراني الذي شغل العالم لمدة تزيد على عقد من الزمن، فلا استطيع فهم موقف بعض الأطراف الخليجية من التدخل العماني في ملف إيران النووي، والذي أتى في وقت حرج للغاية، في وقت كان الكلام يدور فيه عن ضربة أمريكية محتملة ضد سوريا، والتي كانت إسرائيل قد تتخذها ذريعة لضرب إيران في حال تدخلت لصالح حليفتها سوريا. لقد كانت المنطقة بحق على شفا حرب كبيرة، ربما كانت ستقضي على الأخضر واليابس.

إنّ الموقف الخليجي ذكرني بطريقة وأخرى بموقف الجمهوريين وباليمين المتشدد في أمريكا وكذلك موقف إسرائيل مع اختلاف النوايا والأهداف بين هذا وذاك بالطبع. تهكم كيري في لقائه الأخير على أسئلة الجمهوريين لشرح الملف الإيراني فقد أعطى صورة واضحة جدا لفهم الأمر على حقيقته الصحيحة، وجاء مطابقًا للمساعي العمانية. لقد قال كيري بوضوح إنّ إيران باتت تملك منذ زمن خبرات نووية لم يعد ممكنًا منعها أو محاصرتها. علينا كعرب أن نفرق بين العواطف وبين الوقائع السياسية، فالسياسة التي تسمى أحيانًا فن الممكنات، لا يمكننا الحصول منها على نتائج وتتفق دائماً مع التمني والرغبات، بل هو استغلال الموجود والمتوفر من حلول توافقية.

وقد كان هناك مساران واضحان لا ثالث لهما في الملف النووي الإيراني لو ترك الأمر بدون تدخل، مساران أحلاهما مر. المسار الأول وفي ظل الضغط الغربي على إيران وحكرها في زاوية ضيقة وتشديد الحصار عليها، كانت تجعل إيران كرد فعل طبيعي تعمل سرا لتطوير برنامجها النووي وتحاول كذلك أن تجد مخارج للحصار في بناء علاقات مع الشرق ومع القطب المتنامي هناك متمثلا في الصين وروسيا. لعل أمريكا أدركت كما فهمنا من كلام أوباما وبعدها وزير خارجيته أن الحل في قضية الملف الإيراني يكمن فقط في الاحتواء وليس في المواجهة.

أما المسار الآخر وهو المسار الأخطر والأكثر مرارة فهو الهجوم ألأمريكي الإسرائيلي على إيران إن حصل، والذي كانت إسرائيل تضغط باتجاهه. وهذا الأمر إن حصل سنكون نحن على ضفاف الخليج أكثر المتضررين منه. ما يدرينا كيف تتطور حرب مثل تلك وأي منحى تأخذ، فحرب مثل تلك من الممكن أن تتحول إلى حرب عالمية لا تبقي ولا تذر، ولا سمح الله تصبح أيام الأمن والهدوء والرفاه فقط من الذاكرة وحينها لا يفيد لا البكاء على اللبن المسكوب ولا ضرب الأخماس في الأسداس.

فالتدخل العماني أتى في الوقت المناسب ولم يكن أبدًا ضد المصلحة الخليجية. إن حرص عمان دائمًا على إتباع سياسة خارجية أكثر استقلالاً مفيدة للمنطقة لأسباب سياسية وجيوسياسية، وهذه الاستقلالية لا يمكن أن تتعارض مع السياسة الخارجية الخليجية المشتركة، بل إنها تتكامل معها. والذين فكروا يوماً غير ذلك لم يأخذوا في الحسبان أن الدائرة لا تكتمل إلا بهذا النهج، إذ لا يمكن العيش في توتر بجانب إيران الكبيرة سكاناً ومساحة وتاريخًا أو الاستغناء في الجانب الآخر عن أخوة الدم والأصل والتاريخ المشترك في الخليج. الحفاظ على هذه المعادلة بإتقان لا يجيده إلا شخصية بحجم السلطان قابوس -حفظه الله-. ما نتمناه نحن عرب الخليج بعد تلك الخدمة العمانية الكبيرة أن تكرس إيران مساعيها هذه المرة لبناء الوطنية في شعوب المنطقة، فالوطنية هي حبل النجاة الوحيد لانتشال المنطقة من براثن الطائفية والفئوية التي أغرقت الأوطان في دماء.

وإنّ مما يُميز مسيرة السلطان قابوس السياسية إلى جانب بعد النظر والحنكة السياسية، أنّه استطاع في زمن قياسي بفضل الله سبحانه وتعالى إلى جانب تاريخه الطويل في درء المخاطر عن المنطقة والعالم تحويل دولة عريقة ضاربة في قدم التاريخ بحجم عمان من براثن الجهل والتخلف والتشتت إلى دولة عصرية بكل المقاييس وكل ذلك في تناسق اضطرادي عجيب بين تطور الفرد وتطور محيطه الثقافي والحضاري، واستحق بحق أن يُنادى من شعبه الوفي بسلطان القلوب، وها نحن احتفلنا قبل أيام قريبة بذكرى مرور 45 عامًا من العطاء والتقدم الازدهار ومن العيش في واحة أمان وسلام.

وقد أثبت التاريخ أنّ الحياة السياسية لهذا النوع من السياسيين ورجال الدولة ليست سهلة ولم تكن مفروشة بالورود، لأنّ العالم قد لا يفهم ما يقومون به في حينه، وكثيراً ما يأتي الاستيعاب بعد فوات الأوان إذا لم تلق المساعي آذانا صاغية أو بعد سنين عدة عندما تظهر النتائج الإيجابية لتلك المساعي، ليس فقط لندرة هذه النوعية من السياسيين ولكن بكل بساطة هؤلاء سابقون لدهرهم ويرون حقائق جيوسياسية قد يصعب على الآخرين رؤيتها.

ولا شك أن جلالة السلطان قابوس -حفظه الله ورعاه- يُعد واحدا من هؤلاء السياسيين العظام بشهادة أشهر الجامعات ومراكز البحث والمهتمين بالسياسة. وما نيله جائزة السلام الدولية الأمريكية وجائزة السلام الروسية إلا اعتراف بأنه بحق رجل السلام في عالم اليوم، حفظه الله وأمد في عمره وألبسه ثوب الصحة والعافية.

said21040@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك