النداء الأخير للإبحار

جمال القيسي

ها هو البحر يستقبل الهاربين من السعير. يلقاهم بكل ترحاب وحميمية. يناديهم: تعالوا إليّ أيها الفارون من القتل والبراميل المتفجرة وكافة أشكال العذاب والدمار. تعالوا يا أحبتي. هيا يا عشاق الحرية والسلام، والنأي بالنفس عن مناطق التوتر والنزاعات الإثنية والقبلية والوحشية، اقتربوا أيها المبحرون نحو الحياة. سأحملكم وأحلامكم إلى أوروبا نفسها. بلاد الخضرة والماء والوجه الحسن، والقوانين العادلة والديمقراطية الراسخة. لا تخافوا أيها المسافرون على متن سفينة الأمل واطمئنوا. لا تقلقوا من الحمولات الزائدة على متن سفينة تبتغي النجاة؛ لأنّ احتمال النجاة أمر غير محسوم لا على الأرض ولا في لجة البحر ولا على متن الطائرات. لن تخسروا شيئًا. وهل ظل لديكم ما تخسرونه؟! ها أنتم بلا أمن ولا أمان بعد أن صار يترصدكم الموت، ويتربص بكم الرعب في كل مكان، وغزاكم حتى في غرف نومكم. احتل بيوتكم، وهدمها فوق رؤوسكم فلم يعد للواحد فيكم من سقف. هل تدركون معنى أن يفقد المرء سقف بيته. لا شك أنكم أنتم من يدركون. اطمئنوا وهلموا نحوي. ساعات قليلة وتخرجون من قبضة المارد، تفرون من بين أنياب الأسد الذي فتك بحياتكم وأحلامكم ومزق أجساد أحبتكم وأبنائكم على مرأى من قلوبكم فأدماها، وجعل طعم الحياة في حلوقكم مريرة كالعلقم.

حدقوا في زرقة البحر. ألا ترون أني أبعث على الطمأنينة والحلم والأمل، وأحمل في لوني وهدوئي سطور الوعد بتغيير حياتكم، أو للدقة ودون مجاملة، ما تبقى من حياتكم؟ ألا تشعرون بأنّ الساعات القليلة تستحق المجازفة والمغامرة، ألم أوصل قبلكم آلاف الحالمين مثلكم؟ ألا تتوافر لديكم على متن السفينة أطواق النجاة؟ وغالبيتكم يجيدون السباحة، كما يجيدون صناعة الأمل بسرعة استجابة الطرف الآخر لنداء الاستغاثة؟.

اعقدوا النية، لا تتردوا، ما خاب إلا المترددون. سيكون بانتظاركم منقذون، ومسعفون، ومستشفيات طوارئ متنقلة بانتظار إشارتكم لتغوثكم، سيضع المسعفون فوق أكتافكم بطانيات الاستقبال الطبي الشفوق الإنساني الرحيم، ثم يوضع المتعب على نقالة تحمله إلى مستشفى نظيف، وفوق سريره أزهار عابقة بالياسمين وأمنيات الشفاء من الأوطان.

نسبة النجاة أعلى بكثير منها فيما بقيتم في أرضكم. هناك يطل عليكم الموت بأشكال عديدة، ومن بنادق مختلفة، وفوهات لا تقبل إلا بابتلاع أعناقكم، ولا تعرفون إلى أي مدى ستتزايد فوهات هذه البنادق، وتتنوع طرق القتل والرعب. كما أنكم لا تدركون الزمن المتبقي من أعماركم بعد أن ذبل ورد الوطن، ومالت الشمس ولن تشرق قبل عقود في ضوء ما ترون. ويحكم! هل سأشجعكم على الحياة؟ ألا تدركون أن الموت واحد. والعمر واحد. وكثيرا ما تجري الرياح بحسب ما تشتهي السفن، ودعكم من "قد تجري الرياح". لا. ولا ترددوا "رب امرئ حتفه فيما تمناه" فما خاب إلا المرددون لقديم الشعر، والمستظلون بالحكمة البلاغية. ثم إنكم مضطرون لا متمنون. الأمنيات لا ترد في خواطركم، لأنكم عركتم الواقع الذي فرض عليكم التخلي عن بداهة التمني.

ها أنا البحر من أمامكم، والموت من ورائكم. أنا محض طريق وسيلة نقل. لكن الموت من ورائكم وسيلة طمس الحياة. سأكون صريحا، قبل النداء الأخير، ها أنا من أمامكم وصحيح أنه ربما لا تجري الرياح بما تشتهي سفنكم على صفحة مائي، لكن من المؤكد، وأنتم الأعلم، بأن الموت من ورائكم يشتهي منذ سنوات ما لا تشتهي أنفسكم، ولا ما كانت تتمنى، حين كنتم قادرين على التمني.

استفيدوا من أمم أمثالكم. فلتشجعكم صور الناجين الذين ذكروا تفاصيل رحلة وصولهم، وصاروا في نعمة النوم على الأرصفة قرب الحدود، منتظرين الأمل أن يمدهم بفرصة عبور حدود جديدة!.

لكن للتاريخ والأمانة؛ ابتلعت من قبل كثيرين أمثالكم، لكنهم لم يكونوا سوى عشاق للؤلؤ والصدف. كانوا يرغبون بغوص في أعماقي، ربما لاستخراج درر اللغة العربية، الأخاذة المعاني. كانوا يبحثون عن الصدف الكامن في جوفي، لكن لا تحملوني وزر فضولهم. فقد أغرقتهم المقادير لا الصدف.

كم من ظلم وقع علي حتى صار يسميني بعضكم: القبر الأبيض المتوسط. لأني مجرد بحر، وإنما بلادكم هي القبور الكبيرة!.

تعليق عبر الفيس بوك