أصحاب الموقف الثالث بلا جماهير

رحاب أبو هوشر

يتضح أن مطالب الديمقراطية والتعددية السياسية، ورفض مصادرة حرية التعبير والاعتقاد والرأي، وبالتالي الخروج على ثقافة القطيع التاريخية، ادعاءات تحولت فقط إلى لازمة تمهيدية للتراشقات الإعلامية، والمساجلات المسماة زورا "نقاشا"، وخصوصا بين المثقفين، فكل هذا الكلام لا يتجاوز كونه زبدا طافيا على وجه الحقيقة، ولم يشفع لمن كانت لهم آراء مخالفة للسائد، أو لغيرهم ممن لم تنسجم مواقفهم كليا، مع الرؤية العامة للأحداث العربيّة، أو مع إجماع المُجمّع السياسي أو الطائفي.

لم يلتئم الانقسام حول الموقف من "المأساة السورية"، ولم تخفت حدة التراشق، الذي بلغ عداء مستحكما بين المنقسمين، على الرغم من مضي أكثر من أربع سنوات على "حراك" تحول سريعا إلى حرب إقليمية مدمرة. ويبرز ذلك الانقسام الثنائي، الذي يحيل إلى فرز قطيعي لا يحتمل موقفا ثالثا، في المواسم الانتخابية للهيئات الثقافية والنقابات المهنية، مثل "رابطة الكتاب الأردنيين" في تحضيراتها الانتخابية حاليا. وأهم إنجازات أصحاب الموقف الثالث أنهم يشكلون حالة الإجماع الوحيدة، حيث ينالون دائما الحصة الأكبر من هجوم كلا الفريقين واتهاماتهم!

كنا نظن أن المثقفين والمنخرطين في الشأن العام، تجاوزوا في المستوى النظري على الأقل، ثقافة القطيع، وإن كنّا جميعًا، نصارع واقعًا اجتماعيًا وثقافيًا، يضغط ليل نهار تجاه الانصياع لها، مهددين بالنبذ والرفض والعقاب كذلك، إلى أن جاءت "الثورة السورية"، لتدخلنا في تجليات أكثر كشفا وتوترًا صاخبا لمفهوم القطيع. عليك أن تكون واحدًا من اثنين، مع الثورة أو ضدها ومع نظرية المؤامرة، وبغض النظر عن المقدمات والملابسات، وما آلت إليه ونتج عنه من قتل وتدمير وتخريب للدولة والإنسان السوري. لا متسع لمسارات أو زوايا أخرى بينهما. هدير الإرهاب الفكري يعلو بأن ما يحدث هناك لا يحتمل المناطق الوسطى، ولا يسمح بتداخل الألوان، فإما أن يكون لونك أبيض أو أسود لا ثالث لهما!

وضع المخالفون لإجماع "القطيع" أيا كان عنوانه، في مرمى نيران شخصنة الأفكار، وأطلقت عليهم التهم جزافا بدءأ بالتخاذل والانتهازية، وانتهاء بالعمالة والخيانة للشعوب وللقيم الإنسانية، وهو إرهاب لفظي/ فكري يقوم به الطرفان: مؤيدو الثورة، ومؤيدو المؤامرة، سواء بسواء، وبتطابق في الخطاب والأدوات. إنهما ببساطة يصدران عن ذات الذهنية.

لم يسعف المدافعون عن الموقف الأوحد، بديهية اختلاف المرجعيات الفكرية والسياسية، وحرية الرؤية بمنظور حسابات مختلفة، ذات معايير ومنطلقات لا تتفق مع التوجه السائد، أو تحظى بتأييده بالضرورة، كما أنها ليست مطالبة بتلبية رغبة القطيع المحمومة بالامتثال والطاعة، واختلط عليهم أيضا، الفرق بين الفكرة وصاحبها، وبين رفضها والرغبة بالقضاء عليه!

الحالة ذاتها تنسحب على التعامل مع مجمل الوضع العربي الراهن. كيف يمكن بلورة مواقف نقدية جادة تجاه زلزال هز المنطقة، وسيغير ملامحها السياسية والاجتماعية، ويحدد مصيرها المستقبلي، خلال زمن منظور كما تعلن التحولات المتسارعة، إن كان تحقيق الإجماع والتأييد المطلق هو المطلب الوحيد؟ ولماذا يجب أن تكون جماهير اتضح أنها طائفية أو فئوية غالبا، على حق؟ هذه الجماهير التي يتلاعب بها تجار الدين والسياسة، وتنهشها أمراض التمزيق الطائفي والمذهبي والأصوليات. وما الفرق بين المفكر والطليعي، أو المثقف التنويري وغيره من عامة الناس، إن أصبح عالقا في مواجهة استحقاق الاستجابة المطلقة للمواقف الجماهيرية، فقط لأن قطيعه الطائفي أو الأيدولوجي يطالبه بذلك، ويصادر حقه بالتفرد بالموقف وبامتلاك رؤيته النقدية الفاحصة، وفي الخلفية صيحاتهم من أجل الحرية!

من جهة مقابلة، حارب كثير من المثقفين بشراسة في تلك المعارك، على أرضية اصطفاف قطيعي مزدوج: سياسي- طائفي أو مذهبي، لم تفلح غلالة "الحرية" التي تذرعوا بها في حجبه، منقلبين على كتاباتهم وأعمالهم الثقافية عن الحداثة والمدنية. وتورطنا مجددا بأن أصبحنا أسرى تمثلات قطعنة لا تقل شراسة، عن مثيلاتها التقليدية، وباتت تمثل سلطة فكرية/ اجتماعية جديدة، تلجئ عديدين إلى إخفاء مواقفهم وآرائهم الحقيقية، هربا من مجادلات عبثية، أو من احتمالات التشويه والاتهام، لكننا هذه المرة بمواجهة قطعنة للمواقف والآراء والأفكار السياسية على وجه الخصوص، وما هي إلا تمثيلا "حداثويا" لثقافة تاريخية راسخة، رغم المهارات اللغوية، وبراعتها في ليّ المبادئ الإنسانية الأساسية، لتوظيفها وفق العناوين، بمكونات شديدة التجذر والتماسك.

لا تحتمل ذهنية القطيع إلا خطابا مطلقا، تصنيفيا وإقصائيا، وتطرب لسماعه، بل لا تقوم إلا عليه. عليك أن تنضوي تحت عباءة القطيع، آخر تصاميمها "الديمقراطية"، إذا أردت النجاة، وإلا ستحارب بوصفك معاد خطر. فريق الثورات، وفريق المؤامرات، مطلقان لا يلينان. الاثنان يمتلكان الحقيقة كاملة، ومعها مفاتيح الحرية والكرامة، كما أنهما بابان عاليان، ينفتحان على قطيعين هائلين من "المتجانسين المبتهجين بالرفقة المؤنسة"، هما من يسميهما كل فريق: الجماهير!

تعليق عبر الفيس بوك