خطاب الترشيد

حاتم الطائي

يدخل العالم أجمع وبلا استثناء في نفق أزمة اقتصادية حادة، تتفاوت درجاتها ومستوياتها ما بين مد وجزر، لتلقي بتداعياتها على كثير من اقتصادات الدول، ودوننا قضيّة اليونان التي تابع العالم فصولها المأساوية.

وكان آخر تداعيات تلك الأزمة المؤثرة قيام الصين بتخفيض عملتها "اليوان" مقابل العملات الأخرى في محاولة منها لتحفيز نشاطها التصديري الذي يعاني تراجعاً قدر بـ18% منذ بداية العام الحالي، على الرغم من مطالبة الولايات المتحدة للصين برفع سعر اليوان لكن يبدو أنّ الصين كان لها رأي آخر مما انعكس سلبًا على كثير من البورصات ومن بينها البورصات العربية التي تكبدت خسائر فادحة الأسبوع الماضي، وسط موجة هبوطية حادة اجتاحت أسواق الأسهم والسلع الأولية حول العالم مما أجج المخاوف بشأن النمو الاقتصادي العالمي والمتأزم أصلا؛ الأمر الذي أضاف هاجساً جديداً على الأوضاع الاقتصادية لدول المنطقةالتي تعاني جراء انخفاض أسعار النفط.

والسلطنة ليست استثناء منكل ما سبق لاسيما وأنّها ضمن قائمةالدول المصدرة للنفط الذي يرى كثير من الخبراء أنّ أسعاره ستبقى منخفضة لبقيّة العام وكذلك العام المقبل لأسباب سياسية واقتصادية متشابكة، لكنّها تعود بشكل أساسي إلى زيادة المعروض المقدر بـ3 ملايين برميل يومياً؛ خاصة مع وجود اختلافات جذرية وحادة بين دول الأوبك على الحصص والأسعار.

وإذا أخذنا في الحسبان زيادة إنتاج الولايات المتحدة من النفط الصخري والذي يصل إنتاجه إلى أربعة ملايين برميل يوميًا، إضافة إلى انخفاض معدلات النمو في الصين واليابان وألمانيا والذي بدوره يُقلل من طلبها على النفط؛ سنصل إلى نتيجة مفادها أنّ الأسواق متشبّعة، وأنّ هذه التُخمة في المعروض تدفع الأسعار إلى المزيد من الانخفاض الذي يضر باقتصادات الدول المنتجة مما يجعلها تعاني أوضاعًا اقتصادية تعطل قاطرة التنمية لديها.

ليس من السهل علينا أن نتكيّف مع أوضاع اقتصادية ناجمة عن انخفاض الدخل بما يقدر بنسبة 50% في ظل اقتصاد يعتمد بشكل كبير على النفط،فقد بلغ إجمالي العجز خلال الستة أشهر الأولى من السنة نحو 1.918 مليار ريال حتى نهاية يونيو؛وهو مبلغ كبير نسبيًا لأنّه قد يتضاعف مع نهاية العامإن لم يتم تدارك الأمر واجتراح حلول جديدة تأخذ في حسبانها أن ليس هناك بوادر تلوح في الأفق وتشير إلى أن قُرب تحسّن أسعار النفط.

ومن هنا تأتي أهميّة الحديث والتركيز على الإنفاق والترشيد الحكومي للمصروفات، والذي إن تمّ تطبيقه بصورة فعليّة وجادة فإنّ من شأنه أن يسهم كثيرًا في الحد من العجز المالي إلى الحدود الدنيا.

وحتى يؤتي هذا الترشيد أكله فإن ّالأمر يتطلب درجة عالية من الوعي، والتكاتف والغيرة على المال العام بتعهده بالحفظ والنماء، وعلى الرغم من الإنفاق الكبير الذي تشهده السلطنة في العديد من المجالات التنمويّة وخاصة في مشاريع البنى الأساسية إلا أنّ أولى الخطوات الفاعلة لتطبيق الترشيد وتقليل الإنفاق يمر عبر بوابة الوزارات وحثّها على التركيز أكثر في ترشيد مصروفاتها المختلفة لاسيما غير الضرورية والكماليّة، وأن تعيد النظر أكثر من مرة في تنفيذ المشاريع، وأن تعمل على إعادة تقييم جدوى المشاريع حسب معيار الأولوية من حيث الأهم فالمهم وبعده الأقل أهميّة.

ولابد أن نعي أنّمصلحة الوطن هي العليا وأن ننأى بأنفسنا بعيدًا عن الأنانية والتفكير الفئوي السالب، نظرًا لصعوبة الوضع، وحاجتنا الماسة لوضع معالجات تتطلب منّا بذل التضحيات الجسام والتكيف مع الواقع الجديد وفق اشتراطاته وظروفه الخاصة.

كما أنّ علينا التيقن بأنّه لا توجد حلول سحرية يمكن تطبيقها بين ليلة وضحاها لتجاوز الأزمة الاقتصادية، بل يجب التفكير في استحضار ما يلائمنا من أفكار اقتصادية لنخرج منها بنموذج جديد يجسد تعاملنا معها،والذي يتركز بشكل أساسي حول تخفيض تكلفة الخدمة أوالمنتج حتى يكون أكثر تنافسية.. ونحن مطالبون جميعًا بالتكيّف بشكل أفضل مع الأوضاع الجديدة لنتجاوز الأزمة ونحن أفضل حالاً.

لابد لنا جميعًا حكومة ومواطنين وقطاعًا خاصًا من تحمّل مسؤولياتنا كاملة والقيام بواجباتنا تجاه الوطن للعمل على كبح جماح الإنفاق وتطوير الموارد عبر التركيز على الإنتاجية والكفاءة، والبعد عن مظاهر الاقتصاد الريعي وثقافته القائمة على المظاهر الاستهلاكيّة الجوفاء، وتعزيز ثقافة العمل والإنتاجية واحترام الوقت.

وحتى نحقق مبدأ تطبيق القدوة الحسنة واللحمة الواحدة بين أبناء المجتمع يجب على المسؤولين أن يكونوا نموذجا حسنا لموظفيهم في التنازل عن بعض الامتيازات التي لا تتناسب والأوضاع الجديدة؛ وعلى سبيل المثال توقيف المكافآت والبدلات في العديد من المجالس واللجان الحكومية، إذ لا يستقيم عقلا أنّ نمنح حوافز ومكافآت لموظف أو مسؤول نظير أعمال هي من صميم وظيفته ومن صلب مسؤولياته المنوطة به.

البنوك العمانية مطالبة هي الأخرى بالتقليل من سقف القروض الشخصيّة؛ لأنّها ذات طابع استهلاكي، والتوجه أكثر نحو التوسّع في التوظيف والتدريب لأنّ أرباحها تسمح بذلك، وألا تكتفي بدورها المصرفي التقليدي فقط؛ بل عليها أن تطرح المبادرات وأن تشرع في التفكير خارج الصندوق، وإيجاد السبل الكفيلة بدعم الاقتصاد الوطني خاصة أنّها تحتكم على كم كبير جدًا من السيولة، وأن تساهم بشكل أفضل في تمويل القطاعات السياحية واللوجستية والسمكية وبقية الأنشطة ضمن خطط التنويع الاقتصادي.

هناك معالجات أخرى لابد من دعمها ومنها تعزيز النظام الضريبي والتوسّع فيه، ورفع الدعم عن المحروقات بشكل تدريجي لايؤثر على معيشة المواطن، وغيرها من الإجراءات التي من شأنها أن ترفد الخزانة العامة للدولة بمزيد من السيولة.

ولكي ينجح خطاب الترشيد ويحقق المأمول منه لابد أن تتضافر جهود جميع فئات المجتمع ومختلف قطاعاته سواء الحكومية أوالخاصة..وهنا يقع على كاهل النخب المتعلمة والمستنيرة دور كبير حول توعية المجتمع، وتبصيره بما يلزم وواجباته تجاه الوطن،والتي ترتكز على الإحساس العالي بهموم الوطن والتحديات التي تعترض طريقه في مسيرة التنمية..

يجب أن نكون جميعًا على قلب رجل واحد،وأن نعمل ونتحلى بروح الفريق الواحد من أجل عمان الخير.

 

تعليق عبر الفيس بوك