تأملات في فضائل الخيال

مريم العدوية

"كم أنت منسي وحر في خيالك" محمود درويش

لم يخلق الله للإنسان جناحين ليحلق بهما في المدى البعيد، ولم يمنحهُ سرعة العجلات الدوّارة في الحركة ولم تشأ إرادة الله كذلك منحهِ رؤية تتعدى المسافات المحيطة به. ولكن الله سبحانه وتعالى من ناحية أخرى منح الإنسان رغم ضعفه ما يشد من أزره ويسنده في هذه الدنيا؛ ليعمر الكون ويكون خير خليفة لله فيه. فالإنسان بعقله وإدراكه للكون من حوله تفوق على الطيور في التحليق، وغلبت سرعته العجلات الدوّارة من خلال صواريخهِ المنطلقة إلى الفضاء الرحب على سبيل المثال لا الحصر، وأخضع التلسكوب وغيره من الأجهزة إلى اطلاعه على الأشياء البعيدة وشديدة الصغر من حوله.

ولولا أن للإنسان نفساً توّاقة وفكرا جموحًا وخيالاً دافقاً لما استطاع الوصول إلى ما وصل إليه.

إن للخيال فضائل لا يمكن أن يغفل عنها من كان يسعى إلى القمم؛ فالخيال هو صانع الحُلم الأول، وهو البذرة التي تنبتُ مع الوقت وتشحذ الهمم إلى أن تتحول إلى حقيقة.

ودون الخيال يبقى المرء رهين الجدران والمسافات القصيرة والإمكانيات المحدودة؛ وحده الخيال من يفتح الباب على مصراعيه للإنسان تحت سماء (لمَ لا؟)، تلك السماء التي تجعل من المستحيل ممكناً بل وتتعداه إلى أبعد من ذلك.

وفي ذلك قال ألبرت أينشتاين مرة: "الخيال أهم من المعرفة؛ فبالخيال تستطيع رؤية المستقبل" وقال أيضًا: "الخيال أهم من المعرفة؛ فهو رؤية مسبقة لجاذبيات الحياة المستقبلية"؛ فالخيال يجعل منك فارساً تمتطي صهوة جواد لا يهاب الجبال ولا الحُفر، ينطلق بك إلى مدارك بعيدة تفوق ما كنت تتوقعه.

إنه لمن المؤسف أن يحبس البعض أنفسهم تحت قيود الواقع حارمين أنفسهم من فسحة الخيال، معتبرين ذلك ضرباً من الفراغ والجنون الذي لا طائل منه، ولو أنهم وقفوا مرة يتأملون ما في طيات الخيال من هِبات ونِعم لأدركوا بأنهم أشقياء بعزوفهم عن الخيال. "الخيال سمة الإنسان المنتج" هذا ما ذهب إليه فيليب بون، مؤكداً أن الخيال من شأنه منح الإنسان الكثير من الخيارات التي لم تكن من قبل متاحةً على أرض الواقع، وبالتالي فالخطوة الأولى نحو الابتكار والإبداع تبدأ بفتيل الخيال. هَبْ ألا وجود للخيال، ومن ثم يمكنك أن تدرك كمية القحط والجفاف التي ستغتال حياتنا؛ فبدون الخيال سنبقى بلا أمل لخطوة قادمة. وبدون الخيال لن تكون هناك أي إضافات من العقل البشري للعالم!.

فكيف يمكن للعلماء أن يأتوا إلينا باختراعات وابتكارات جديدة، قبل أن يُعمِلوا خيالهم ويخططوا ويتصوروا ويرسموا في أذهانهم ومن ثم يحولوا ذلك على أرض الواقع إلى مادة ملموسة؟

والخيال عنصر مهم من عناصر الأدب كذلك، وهو في الشعر يأتي بأشكال عدة ومنها: التشبيه أو الاستعارة أو الكناية وغيرها. وللصور الخيالية دورٌ لا يبارى في التلذذ بذوق الشعر؛ ذلك أن الخيال يفتح الآفاق أمام النفس البشرية، فلا تشعر بالملل من الوجود جراء ما ترى من مفرداته كل حين.

وللخيال من جانب آخر نصيب وافر من التربية، وإنه لمن الجيد أن يعول أولياء الأمور عليه الكثير في مجال تربية أبنائهم؛ فمن شأن الخيال تنمية قدرات أطفالهم الذهنية وذكائهم، كما أنه يفتح لهم فسحة واسعة من الحياة، وما أضيق الحياة لولا رحابة الخيال!.

فالمربون قادرون على رسم مشهديه مثيرة لاستفزاز أدمغة أطفالهم بالقص والرسم وغيرها من الفنون وبها يستطيعون أن يزرعوا ما يشاؤوا من الأفكار، وطالما أن الخيال والتشويق قد وجد مكانه في ذلك فإن الأطفال، وهي كذلك أكثر قدرة على التأثير فيهم. الحياة مليئة بالكثير، ولذا نحن لا نستطيع أن نتذوق كل ما يحوي بستانها؛ لفرط ما هو شاسع وكبير، ولكننا نستطيع أن نركز في كل مرة على شيء من ثمارها لنستمتع بالحياة، فلنجعل من ثمرة الخيال خيارنا القادم ونتلذذ بها.

لكل منّا خياله الخاص، وحريته غير المقيدة، ومن يستطيع أن يتحكم في خيارات خيالك؟ بالتأكيد لا أحد وبالخيال يستطيع المرء أن يرسم القضبان أو أن يطير عالياً بعيداً عنها ويبقى الخيار بيده وحده.

وإن كنّا قد أسلفنا عن فضائل الخيال الكثير يبقى أن نقول بأنه ككل شيء له حسناته وسيئاته، فمن أغرق نفسه في عالم الخيال بعيداً عن الواقعية في كل أمره وبلا حساب ولا هدف بكل تأكيد لن يجني من الخير الكثير.

تعليق عبر الفيس بوك