أين دول الخليج من التجربة الماليزية..؟

زاهر بن حارث المحروقي

أين دول الخليج من التجربة الماليزية..؟ سؤال يتبادر إلى الذهن، بعد أن أصبحت ماليزيا نموذجاً كان يجب أن يحتذى به؛ إذ أنها أصبحت دولة صناعية متقدمة، استطاعت أن تبني لنفسها اقتصاداً قوياً، رغم أنّها لا تملك إلا قليلا من الموارد، ويعود هذا الأمر إلى رجل له فكر ورأي، وله هدف سعى إلى تحقيقه وهو جعل ماليزيا دولة لها وجود في خارطة العالم، هو مهاتير محمد.

لقد كان يوم 16/7/1981، يوماً غير عادي في حياة ماليزيا؛ إذ كان اليوم الذي سجله التاريخ كأول أيام خروج ماليزيا من القاع إلى القمة، عندما شغل مهاتير محمّد، منصب رابع رئيس وزراء لماليزيا، والذي استمر فيه حتى 31 /10/2003، وما بين التاريخين تحولت ماليزيا من دولة زراعية يرزح سكانها تحت خط الفقر وتعتمد على إنتاج المواد الأوليّة، إلى دولة صناعية متقدمة يساهم قطاعا الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي قفزة كبيرة بكلِّ المقاييس، ممّا أدى إلى ارتفاع صادراتها من السلع المصنعة إلى 85% من إجمالي الصادرات، وتنتج 80% من السيارات التي تسير في الشوارع الماليزية؛ فكانت النتيجة، أن انخفضت نسبة خط الفقر من 52% من إجمالي السكان، إلى 5% فقط عام 2002، وارتفع متوسط دخل المواطن الماليزي لأكثر من سبعة أمثال ما كان عليه منذ ثلاثين عاما، وانخفضت نسبة البطالة إلى 5%؛ وهذا هو عكس ما حصل في دول الخليج العربية تماماً إذ أصبحت دولاً مستهلكة فقط، رغم ارتفاع ميزانياتها جراء ارتفاع أسعار النفط.

لقد فتح مهاتير محمد الباب أمام الاستثمارات الأجنبية في بلده بقيود تخدم ماليزيا ولا تخدم المصالح الأجنبية فقط، وأصلح عملية فرض الضرائب وخفّض القيود التجارية وقام بتخصيص المشاريع الخاصّة ببلده، إضافة إلى إنشاء بنية تحتية طبيعية من الطراز الأول، وأسهم في رأب الصدع بين التقسيمات الماليزية العرقية من خلال تحسين معدّل الرخاء الاقتصادي، وأطلق عام 1991 سياسة التنمية الجديدة التي أكّدت على التنمية التجارية والصناعية والقضاء على الفقر، حيث أصبحت ماليزيا واحدة من أكثر الاقتصادات ازدهاراً وفعالية في جنوب شرق آسيا، إذ ساد القطاع الصناعي وانتشرت الطبقة الوسطى وغدا مستوى حياة الناس أفضل.

لقد كشف مهاتير محمّد الرؤية الاقتصادية لماليزيا عام 2020، في 1991، وذلك نتيجة حرصه على التخطيط المستقبلي، الأمر الذي جعل ذلك بصمة في مسار ماليزيا، ليغدو اقتصادها متنامياً ولتتمتّع بديمقراطية ناضجة بحلول عام 2020؛ وتهدف الرؤية إلى جعل ماليزيا دولة صناعية مكتفية ذاتياً، وتشمل هذه الرؤية جميع نواحي الحياة، من الازدهار الاقتصادي، والرفاه الاجتماعي، والاستقرار السياسي والتعليم بالمستوى العالمي، فضلاً عن التوازن النفسي والأخلاقي للمواطن الماليزي، ويقول مهاتير محمد "بحلول عام 2020، تستطيع ماليزيا أن تكون أمة موحدة ذات مجتمع واثق ومتشرب بالقيم المعنوية والأخلاقية القوية، يعيش بشكل ديمقراطي، ليبرالي متسامح، ومتعاطف مع الغير، تسوده العدالة الاقتصادية والانصاف والتقدمية والازدهار، ويمتلك اقتصاداً قوياً ومرناً وقادراً على المنافسة"، لذا وضع تسعة أهداف لتنفيذ خطته، وهي جديرة بأن يتابعها من يخططون لمستقبل أوطانهم في كلِّ مكان.

لم تكن تلك التحديات أو الأهداف مجرد شعارات رفعتها ماليزيا عبر وسائل الإعلام للإستهلاك المحلي فقط؛ بل كانت خطة عمل نفذها مهاتير محمد حتى وصلت ماليزيا إلى ما وصلت إليه، وصحيح أنّ التجربة الماليزية وقعت في أخطاء ووقع فيها بعض التقصير؛ إلا أنّ ما تم إنجازه هو كبير بكل المقاييس، لأنّ الرجل كان صاحب فكر تنموي، عمل على تذويب الفوارق بين العرقيات الماليزية المختلفة، وآمن بشعبه، وكان أبرز ما أدى إلى النجاح هو "الإخلاص"؛ وهي كلمة إذا دخلت في قاموس أيِّ إنسان أو شعب أو حكومة، فإنها قادرة على أن تزيل الجبال من أماكنها وتحقق المستحيل.

لقد أظهر مهاتير محمد قدرة فائقة على إدارة الأزمات في الأزمة المالية التي ضربت دول جنوب شرق آسيا عام 1997، بعد أن رفض الالتزام بتوصيات صندوق النقد الدولي التي توصي دائماً بتقليل الإنفاق، كما رفض مبدأ تخفيض قيمة العملة الماليزية، فاستطاعت ماليزيا التغلب على الكارثة المالية بأقل الخسائر والعودة إلى ما كانت عليه من ازدهار وتقدم، فصار التحسن الكبير في أسواق العقارات، وارتفعت القيمة الاسميّة لأسهم العديد من الشركات والمؤسسات على اختلاف مجالات عملها؛ فيما استعادت الصادرات مكانتها، في الوقت الذي تمكنت فيه المؤسسات الحكومية الماليزية من تنفيذ المشروعات الحيوية الضخمة، إضافة إلى عودة الاستثمارات الأجنبية وتزايد حركة أسواق وأسهم المال والعقارات بصورة بارزة خلال السنوات الماضية.

كانت تلك تجربة ماليزيا في النهوض وفي بناء اقتصاد قوي، وفي التغلب على الأزمة المالية، ولكن ماذا عن دول الخليج التي تتعرض الآن لهزة عنيفة جراء انخفاض أسعار النفط؟. إنه لأمرٌ مؤسف أن تنتهي فترة رخاء دول الخليج العربية، دون أن تبني مستقبلاً حقيقياً للأجيال القادمة؛ فكما يبدو فإنّ أياماً صعبة تنتظر هذه الدول بعد هبوط أسعار النفط، وبعد أن فوتت هذه الدول فرصة ذهبية لتنويع اقتصاداتها؛ بعد أن فتح الله لها خزائن الأرض دون أي جهد منها، بالاستفادة من العائدات النفطية الضخمة التي سجلتها خلال العقود الماضية؛ فمع انخفاض الأسعار، فإنّ الحكومات ستواجه عجزاً كبيراً قد يؤدي إلى خفض في الإنفاق، أو فرض الضرائب، أو رفع الدعم عن الكهرباء والماء والمحروقات - كما بدأت ذلك الإمارات، وكما هو منتظر من الدول الأخرى -، مما يزيد المخاوف من الاستياء الشعبي، وهو استياء في محله، لأنّ التخطيط لم يكن سليماً من الأساس، إذ تحولت شعوب المنطقة إلى شعوب مستهلكة غير منتجة، فيما ارتفع الإنفاق العام إلى مستويات قياسية في أمور جانبية قد تكون تافهة، بدلاً من الإنفاق على مشاريع بنى تحتية تجلب المزيد من الاستثمارات، وذهبت ميزانيات بعض الدول هباء منثوراً في حروب وهمية في العراق وليبيا وسوريا واليمن على حساب التنمية في الداخل، والأمرّ من ذلك أنّ بعض الدول في المنطقة تولت حملة لتدمير أسعار النفط، بهدف إنقاذ الاقتصاد الأمريكي والغربي وبهدف الإضرار بالاقتصاد الإيراني والروسي، والنتيجةُ أصبحت الشعوب تخشى من أن تتأثر حتى في رواتبها، فيما ستلجأ بعض الدول إلى السحب من صندوقها الإحتياطي، رغم أن مثل هذه الصناديق يجب أن يُلجأ إليها في آخر المطاف وليس في هزة مثل هذه التي تعتبر بسيطة، فالأيام المقبلة حبلى بالكثير من الأخبار غير السارة؛ فأمام الأوضاع الاقتصادية الصعبة، لا يمكن أن تطلب من الناس التحمل أو التضحية، في وقت تُشَمُّ فيه رائحة الفساد في كلِّ شيء، لدرجة أن تفقد الناس الثقة في الحكومات، وتتشجع هي الأخرى على الفساد، ولسانُ الحال يقول "لماذا هم فقط؛ ولماذا لا أستفيد أنا كذلك؟"، وهو منطق معوج، لكنه نتيجة منطقية للفساد.

الخلاصة نقول: أين دول الخليج التي فتح الله لها خزائن الأرض بغير حساب، من دولة مثل ماليزيا؟ وأين نحن من شخص مثل مهاتير محمد..؟! إنّ الوضع الاقتصادي المتدهور في المنطقة وغياب الحلول الحقيقية للأزمة، قد يضع الحكومات أمام عدو في الداخل هو الشعوب، وهذه نبوءة أتمنى ألا تتحقق، فالبدائل يبدو أنها محدودة، وكلها تصب في خانة التضييق على المواطنين؛ والمواطنون ليسوا مستعدين للتضحية، رغم أنّ كثيرين منهم كانوا يرون في مشاركة دولهم في الحروب الوهمية ضد الشعوب الأخرى بطولة؛ بل كانوا ينتقدون مواقف السلطنة.

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك