ما زال حيًّا في مكان ما.. (في ذكرى رحيل محمود درويش)

د. فاطمة العليانيَّة

يُصادف، اليوم، الذكرى السابعة لرحيل شاعر الأرض الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، حبة القمح التي ماتت لتخضر ثانية.

فمن رحم الاحتلال وكبت الحريات، يتدفق الفكر والقلب شعرا يضرب في جذور الأرض الفلسطينية.. محمود درويش وسيمفونية الحياة والحرية التي ما فتأت تدغدغ كينونته المثقلة بقضية وطنه المحتل.

لن أسرد حياة هذا العملاق الحافلة بموسوعة الوطن والحزن والاغتراب، وسأكتفي بسرد مسيرتي مع العشق الدرويشي التي بدأت وأنا أستمع لأشعاره التي كانت تلقيها علي ابنة خالتي البهية الشاعرة د.حصة البادية، وكنت آنذاك قد بدأت أولى خطواتي الجامعية بجامعة السلطان قابوس. كانت حصة كلما ترددت علي تلقي من أشعار محمود درويش؛ مما يجعل قلبي يهتز وروحي تتوق إلى المزيد. مازلت أتذكر حين كانت تحمل كتبها وتدخل الغرفة مرددة:

آه.. ياجرحي المكابر

وطني ليس حقيبة

وأنا لست مسافر

أنا العاشق والأرض حبيبة

كان درويش رمزا للثورة، فما كان يقول قصيدة إلا وخلفت ثورة فلسطينة عارمة ضد المغتصب الآثم. تُثير في أبناء الوطن الحماسة وتوقد فيهم نيران الغيرة المحمومة للوطن.

فرَّ جسدا، لكن قلبه ظل مغروسا بحب الأرض إلى أخريات حياته فعلى أرضه ما يستحق الحياة.. ظلَّ مرددا: "سأصير يوما ما أريد"؛ فكان له ذلك فقد ملأ الدنيا وشغل الناس، وأبقى القضية الفلسطينة حية في قلوبنا بقصائده التي لم يرد لها أن تنتهي فكان له ما أراد.

استمرَّ العشقُ الدرويشي يسري في كينونتي التي ما إن لامست تلك الحروف حتى تبعتها في دواوينه الشعرية وحفظ أشعاره.

حتى كان يوم التاسع من أغسطس حين أذيع خبر رحيل محمود درويش على شاشات التلفاز. أتذكر ذلك اليوم وكأنه كان البارحة. ذلك الألم الذي اعتصر قلبي.. بكاء وألم فراق، وكأن درويش جزء مني.

بقيتُ شاخصة أمام شاشة التلفاز أبكي بحرقة وأتابع الجنازة المهيبة.. لم أتحمل رؤية والدته وهي تلقي حفنات التراب على قبره وهو القائل:

أحن إلى خبز أمي

وقهوة أمي

ولمسة أمي

وتكبر في الطفولة يوما

على صدر يوم

وأعشق عمري

لأني إذا مت

أخجل من دمع أمي

فكان الرحيل وكانت الدموع.. كنت أفكر يومها من لا يحب محمود درويش. كم شخص يبكون الآن؟ أي محبة ألقاها في قلوبنا ورحل؟.. استمرَّ بعدها العشق الدرويشي يلازمني كلما رأيت صورته وقرأت أشعاره. أصبح درويش وفلسطين والبكاء متلازمين في مفردات ذاكرتي.

أتذكر مجلة "كلية الآداب والعلوم الإنسانية" في عددها العشرين 2014م، والتي اقتنيتها من معرض جامعة سيدي مُحمد بن عبدالله بفاس. ما إنْ فتحت المجلة في صفحتها الأولى حتى وجدت مقالا عن درويش وعلاقته بإيميل حبيبي بعنوان "إميل حبيبي في أدب محمود درويش"، كتبه د.عبدالباسط الزيود ود.رائدة أخو زهية.

جلست على الرصيف أقرأ باهتمام بالغ، ولم أنتبه سوى لصوت يناديني "نوضي" أي "انهضي" باللهجة المغربية فالمطر يتساقط. كنت أقرأ والدموع تنهمرُ فلم أدرِ أي حزن بعثه المطر؟ هل على رحيل إيميل حبيبي قبل أن يسر بما أراد قوله لصديقه ووداعه؟ أم على محمود درويش الذي ظلت الحسرة بقلبه وهو يودع صديقه في زمرة المشيعين وهو يصرخ في قلبه لم آت للوداع بل للقاء.

لم يُفارقني ذلك العشق الدرويشي لألتقيه من جديد في معرض الدار البيضاء للكتاب حين كانت فلسطين ضيفة المعرض، فما إن دخلت حتى صافحتني صورة محمود درويش على اليمين والرئيس الراحل ياسر عرفات على يسار المدخل، فشعرت بغصة الفراق وأجول ببصري لأرى صورة كبيرة له وأمامه كل مؤلفاته كأب يحتضن فلذات كبده بوداعة وحنو.

وتعودُ ذكرى رحيل شاعر الأرض من جديد وهو حاضر فينا رغم الغياب ولا يزال حيا في مكان ما.

* مؤسِّسة صالون فاطمة العلياني الأدبي بمحافظة البريمي، عضوة الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء.

تعليق عبر الفيس بوك