"أوهايو جوزايمس هيروشيما"

حاتم الطائي

في صبيحة يوم الإثنين الموافق السادس من أغسطس 1945 بمدينة هيروشيما في اليابان، كانت الصغيرة "جنكو" تلعب وتحاول إعداد الفطور لأختها الصغرى سادا؛ بعد أن خرج والداها للعمل باكرًا.. وفي تمام الساعة الثامنة والربع اهتزت الأرض أسفل قدمي الصغيرتين محدثة دوياً رهيباً.. ركضت "جنكو" إلى الباب لتستكشف الذي حدث؛ فإذا بها ترى ألسنة النيران وهي تلتهم كل شيء من حولها.. صرخت "جنكو" فزعة "ساعدوني.. ساعدوني.." ولكن لا أحد يجيب..

فقد أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية أول قنبلة نووية على مدينة هيروشيما لتقتل خلال ثوان معدودة 90 ألف شخص في أبشع مجزرة في تاريخ البشرية وأكبر فاجعة على مر العصور، وبنهاية العام لحق بهم 120 ألف شخص متأثرين بحروقهم جراء التسمم الإشعاعي. بل تشير تقديرات أخرى إلى وفاة أكثر من 200 ألف، ودمار غير مسبوق طال 12 ألف كيلومتر مربع من مساحة المدينة التي وصلت درجة الحرارة فيها إلى 4000 درجة مئوية لتصهر كل حيوات وجمادات في محيطها..

كانت هيروشيما من ضمن قائمة تضم عدة مدن يابانية اختيرت لتجريب السلاح النووي الجديد، وقد قيل إنّه تم اختيارها لأنّ سماءها صافية.

والمؤلم حقًا ويزيد الجرح اتساعا أنّ بعد ثلاثة أيام فقط في التاسع من أغسطس والذي يصادف اليوم وتحديدًا عند الساعة الحادية عشرة وخمس وخمسين دقيقة صباحاً أُسقطت القنبلة الثانية على مدينة ناجازاكي لتحصد 80 ألف ضحية. وقد كانت الولايات المتحدة قد خططت لإلقاء المزيد من القنابل النووية على مدن يابانية أخرى، إلا أنّ الإمبراطور هيروهيتو أعلن الاستسلام للشروط الأمريكية في الخامس عشر من الشهر ذاته.

وفي الـ6 من أغسطس من كل عام تحيي مدينة هيروشيما الذكرى السنوية لضحاياها، وصادف هذا العام مرور 70 عامًا على النكبة الذريّة، وشارك في هذه الاحتفالية الآلاف من محبي السلام في العالم.. وقد كان لي شرف المشاركة ضمن وفود تضم ممثلين لأكثر من 100 دولة حول العالم. وقد ألقى رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي خطاباً، قال فيه: "نظراً لأننا الدولة الوحيدة التي تعرضت للقصف بسلاح نووي، فإنّ لدينا مسؤولية السعي إلى عالم بلا سلاح نووي ويقع على عاتقنا كشف وحشيّة الأسلحة النوويّة عبر الأجيال والحدود". وأشار آبي إلى عزم بلاده تقديم مقترح إلى الأمم المتحدة يقضي بحظر الأسلحة النووية في العالم لأنّها كفيلة بتدمير الإنسانية في لحظات من الجنون. وهو ما يتوازى مع جهود الكثير من الناجين من هيروشيما وناجازاكي، لإطلاق حملة عالمية لإدانة سباق التسلح النووي.

وضمن برنامج الاحتفالية، ألقى رئيس بلدية هيروشيما كازومي ماتسوي كلمة قال فيها: "إنّه من أجل التعايش السلمي علينا أن نتخلص من هذا الشر المطلق الذي تمثله الأسلحة النووية على البشرية وقد حان الوقت للتحرك".

هذه الاحتفالية السنوية تتزامن مع النقاش المحتدم في المجتمع الياباني حول سعي الحكومة إلى تمرير مشروع قانون يسمح بإرسال جنود يابانيين إلى مناطق الصراع في سابقة لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية وهو مشروع قانون تدور حوله الكثير من النقاشات الساخنة وخاصة من جانب المعارضة.

وعلى الرغم من التقدم الذي حققته اليابان في ميادين عدة، ونجاح هذا الشعب المكافح في طي صفحة الآلام والتخلص من شبح ظل يطاردهم لسنوات ما بعد الصدمة، إلا أنّ ذاكرة البشرية والتاريخ لن تنسيا جريمتي إلقاء القنبلتين النوويتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي بوصفهما نموذجًا حيا على الآثار والتداعيات التي تخلفها الحروب، حتى وإن لم تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل..

ومهما ساق المحللون الأمريكيون من مبررات وعلل واهية حول أنّ إسقاط القنبلتين أدى إلى استسلام اليابان وإنهاء الحرب العالمية الثانية، فإنّ الفعل سيظل جريمة ووصمة عار يندي لها جبين الإنسانية، ولا يمكن أن تغتفر أو تقبل نتائجها على الإطلاق، وستصبح المبررات ذرًا للرماد في العيون، لاسيما إذا علمنا أنّ كل الدلائل كانت تشير في ذلك الوقت إلى أنّ الحرب قد أوشكت على وضع أوزارها ولم تبق إلا جيوب مقاومة قليلة متفرقة هنا وهناك.

اليابان قدمت للعالم نموذجًا في كيفية قهر العدوان، والتغلب على آثاره، من خلال تطور حقيقي وجهود شعب لا يعرف سوى العمل الجاد المتواصل لساعات تمتد إلى نهاية الليل.. فالحكومات المتعاقبة على طوكيو لم تفكر سوى في النجاح وتحقيق أعلى الأرقام، وبناء الإنسان المثقف الشغوف بعمله المعتني بأسرته والمحافظ على وحدة المجتمع وتماسكه..

لقد استطاعت اليابان أن تتجاوز هزيمتها، وتنفض عن نفسها رماد الحرب بعزيمة الساموراي؛ فوظفت طاقاتها البشرية في بناء إمبراطوريّة اقتصادية بعيداً عن الإمبرياليّة السياسيّة، فحصدت بعد برهة من الزمن ثمار تلك الإرادة؛ إذ تحتل الآن المركز الثالث في قائمة أكبر اقتصادات العالم بعد أمريكا والصين..

وفي ظل هذا التقدم، يدرك اليابانيون جيّداً أنّ عليهم الحفاظ على هذا المنجز التاريخي بعيدًا عن المغامرات السياسية التي لا تجلب سوى الخراب والدمار..

فلا منتصر في الحروب بل الجميع خاسر، الكل يتكبد الثمن فادحًا، فالدم هو ثمن الحرب، والفناء ضريبة المعارك، والاضمحلال الحضاري حتمي بعد النزاعات المسلحة.. فالحرب لحظة بربريّة يغيب فيها منطق العقل ويصاب شعور الإنسانية معها بالعمى، ويغرق الضمير في سُبات عميق... فهل من متعظ؟!

تعليق عبر الفيس بوك