المفكرون الأحرار في الإسلام

صالح البلوشي

انتهيت قبل أيام من قراءة كتاب مهم وهو (المفكرون الأحرار في الإسلام) للمستعرب الفرنسي المعاصر والمتخصص في الشؤون الإسلامية دومينيك أورفوا، وهو صادر عن دار الساقي بلندن بالتعاون مع رابطة العقلانيين العرب. والكتاب يتطرق إلى الحياة الفكرية لخمسة من المفكرين الذين عاشوا في زمن الدولة العباسية، وهم: عبد الله بن المقفع - مترجم كتاب كليلة ودمنة- (ت142)، وحنين بن إسحاق المترجم والمؤلف المشهور (ت 264)، وابن الراوندي (ت 210)، والفيلسوف والطبيب أبوبكر الرازي (ت 311)، والشاعر والمفكر أبو العلاء المعري (ت 44). ما يجمع هذه الشخصيات أنها جميعها اتهمت بالزندقة والإلحاد في عصرها - وبعد ذلك أيضًا-. بعد انتهائي من قراءة الكتاب استشعرت عظمة الفارق في طريقة التفكير النقدي بين الزمن الذي نعيش فيه اليوم وبين العصر الذي تكلم عنه مؤلف الكتاب المذكور؛ وخاصة العصر العباسي. ففي الوقت الذي يشهد فيه العالم اليوم ثورة تكنولوجية كبرى انعكست على جميع الحقول لا سيما المعرفة، وأصبح الوصول إلى المعلومة سهلا وميسورا ولا يستغرق إلا ثوانٍ فقط وبضغطة زر تأتيك المعلومة التي تريدها، ومع ذلك، نجد تراجعا كبيرا في التحرر الفكري والانفتاح على الثقافات الأخرى في العالم، حتى أصبح الفرد يُتّهم بالإلحاد والعلمانية لمجرد أن يُعرف عنه أنه يقرأ لمحمد أركون أو جورج طرابيشي - مثلا- أو غيرهما، وتكون التهمة مؤكدة ولا تقبل الجدل أو النقاش لو شوهد يقرأ كتابًا لريتشارد ديكنز أو ميشيل أونفري. بينما من يقرأ عن القرون الأربعة الأولى للإسلام يجد أن فترات كبيرة من العصرين الأموي والعباسي وحتى الفاطمي، كانت تشهد تحررا فكريا بمساحة أكبر بكثير من اليوم، وخاصة في عهد الخليفة المأمون العباسي (ت 218 هـ) وهو العهد الذهبي لحركة الترجمة إلى العربية وبروز العقلانية الإسلامية، فقد كانت الأفكار والمدارس العقلانية في عصرها الذهبي، وخاصة المعتزلة، وكانت المناظرات والحوارات العلمية تعقد -أحيانا- في قصر الخليفة العباسي نفسه وبرعايته، بين علماء المسلمين وبين علماء الديانات الأخرى كالمانوية والنصارى والصابئة، وحتى المتهمين بالإلحاد والزندقة، وأحيانا بين أرباب الفرق الإسلامية المختلفة من السنة والشيعة والإباضية والإسماعيلية والمعتزلة والكرامية وغيرهم، وكان الجميع يتكلّم ويبدي وجهة نظره بحرية في مسائل لا يجرؤ الكثير من العلماء والمفكرين اليوم على التكلم أو حتى مجرد التفكير فيها؛ بسبب سيف الردة والخروج عن الإسلام الذي سوف يلاحقهم. وقد أقر بهذه الحقيقة الكاتب نفسه في الصفحة رقم 190 من كتابه حيث قال: "إن البدايات الحضارية الكبرى للإمبراطورية العربية الإسلامية كانت إمكاناتها أكثر ثراء بكثير مما تخولنا تتمة التاريخ أن نفترضه، وكانت الثورة العباسية خصبة على الصعيد الفكري، إذ طالما قبلت بين ظهرانيها بعناصر خارجية كان بزغ منها الكثير في العصر الأموي، ولكن ضغط الأحداث وردود الفعل الانفعالية لدى العامة التي كانت تكره التفكير نضّب ذلك الينبوع.."

وقد برز في تلك الفترة التي أستطيع أن أسميها بالفترة الذهبية في الإسلام الكثير من أرباب الفكر المخالف أمثال: صالح بن عبد القدوس وابن أبي العوجاء وأبي شاكر الديصاني وبشار بن برد وابن الراوندي، وغيرهم، إضافة إلى بروز الكثير من التيارات الفكرية والعقدية مثل: المعتزلة باتجاهاتها المختلفة والإسماعيلية والكيسانية وأهل الحديث وأهل الرأي والجهمية، ومذاهب الفقهاء الكبار أمثال: الطبري وسفيان الثوري والليث بن سعد، وآخرون، ولم يحدثنا التاريخ: أنه حدثت مجازر أو انطلقت فتاوى تكفير عامة كالتي نشهدها اليوم في زمن التكفير قبل التفكير، والتفجير قبل التدبير، بل على العكس من ذلك؛ فقد كانت الردود تأتي على شكل كتب أسهمت في إثراء المكتبة الإسلامية والفكر الإسلامي بالكثير من الأفكار الجديدة مثل: كتاب "الرد على أبي بكر الرازي الملحد" لأبي حاتم الرازي، وكتاب "الرد على ابن المقفع" للقاسم الرسي، بالإضافة إلى كتب الجدل الكلامي بين المذاهب الفكرية في تلك الفترة، وكتب أخرى لا يسع المجال لذكرها في هذه العجالة.وبعد وصول الخليفة المتوكل العباسي إلى الحكم انقلبت الموازين رأساً على عقب؛ مما أثّر وبشكل كبير على حرية التفكير النقدي؛ خاصة بعد أن أطلق العنان لأهل الحديث للسيطرة على المساجد والمدارس الدينية وحُظر على المدارس الفكرية الأخرى نشر أفكارها والكتابة عنها، وتوج ذلك كله بإصدار الخليفة القادر بالله العباسي (ت 422هـ) بيانا أطلق عليه (الاعتقاد القادري)، انتصر فيه لأهل الحديث ضد المعتزلة والجهمية والأشاعرة والشيعة وغيرهم، وعممه على جميع الأمصار والجوامع باعتباره يمثل الاعتقاد الإسلامي الصحيح. جميع ذلك يؤكد ما قاله المؤلف في خاتمة الكتاب ص 237: "لقد أظهرت دراستنا قبل كل شيء أن التفكير النقدي يمكن أن ينشأ في أسيقه متباينة جدا، وهو قابل للصدور عن العالم العربي قابليته للصدور عن العالم الغربي"، وقد علل ذلك في الصفحة رقم 239 من كتابه بأن "الفكر النقدي هو ظاهرة ذاتية واصيلة في الحضارة العربية. وقد تم قمعه في الماضي، عن طريق الخنق لا عن طريق الإقناع بالنسبة إلى الغير، وباللجوء إلى حجج توافقية لا إلى تفكير استيعابي بالنسبة إلى الذات. ولئن حُكم عليه على مدى حقب مديدة بألا يعبر عن نفسه إلا من خلال شظايا مبتورة، فإنه يبقى في وسعه في كل لحظة أن يعاود تكوين نفسه في مسعى منه إلى التعبير عن ملء ذاته". بقي القول إن الكتاب ألقى الضوء على أهم فترة من التاريخ الإسلامي قدم فيها العرب والمسلمون أرقى إبداع حضاري إنساني في جميع الفنون والعلوم.

تعليق عبر الفيس بوك