مشبوه على قارعة الطَّريق (2)

عيسى الرَّواحي

وَصَلنا مركزَ الشُّرطة، بقِيَ صديقي مَعَه في السيَّارة، وذهبتُ للقاءِ ضابطِ المركَز أو مَن ينُوْبُ عنه، وجلستُ معه، وأخبرتُه قصَّتَنا مَعَ الشابِّ مِن بِدَايتها حتى نِهَايتها، وأكدتُ له أنَّنا لَسْنا بصَدَد رَفْع قضيَّة ضِدَّه بقدرِ ما يهُمُّنا أمْرُه، وأنَّه يُثير شُبهات وتساؤلات حَوْل نفسه، وهدفُنَا الأساسيُّ مِن إيصالِهِ إليْكم هُو مَعْرفة حقيقتِهِ، وإجراءُ اللازم تِجَاهَه، ونصحُه والأخذُ بِيَدِه بِمَا يُصلحُ حالَه، فأكَّد لِي حُسْن التصرُّف والعَمَل، وطلبَ مِنِّي أنْ أُبلغه بدخُوْل المكتب.

جَلَسْنا جميعًا داخل المكتب، وبدأ المحقِّق الحديثَ مَعه بالسُّؤال عَنْ أخبارِه وأحوالِه، ثمَّ سأل عَن أهلِهِ وإخوانِهِ ومكانِ سكنِهِ وعملِهِ، وبدأَ يُجِيْب إجابات ليْسَت كَمَا سَمِعْناها مِن قَبْل، ثمَّ طلبَ مِنْه الهُويَّة، فردَّ عليْه بأنَّه قد فَقَدَها، ولكنَّه يحفظُ رقمَه المدني.

ومِن خِلال مَا أجابَ بِهِ للمحقِّق -حيث لا يعرفُ رقمَ هاتفِ أيِّ أحدٍ من أقاربه، ولَيْس لديهِ إخوة، وكَلام غَريْب حَوْل مِشْوار عملِهِ، ومَا يتعلَّق بعَدَم وُجُود أيِّ هُويَّة؛ حَتَّى وَصَلَ مرحلةَ أنَّه يَكْذِب كَمَا يَتَنفَّس- توجَّه إليه المحقِّق ناصحًا واعظًا مذكِّرًا إيَّاه بالموْتِ الذي يأتي بَغْتَة، وأنَّه يحْصُد الشبابَ حَصْدًا، وأنَّ قِيْمَة الشابِّ في طاعةِ ربِّه ورعايةِ أهلِهِ وخدمةِ وطنهِ، وأوْضَح له أنَّ وَضْعَه يُثير شُبهات وتساؤلات، وتجواله من غَيْر هُويَّة قد تنتجُ عَنْه مخاطرُ وأمورٌ غَيْر مُتوقَّعة.

لَقَد وَصَل المحقِّق إلى قناعةٍ بمُرَاوغَةِ الشَّاب، وإلَّا كَيْف يُعقل أنَّه لا يَحْتَفظ فِي هاتِفِهِ بأيِّ رقمِ هاتفٍ لأحدٍ مِن أهلِهِ وأقاربِهِ؟! وكَيْف لا يحتفظُ بأيِّ هُويَّة؟! وكَيْف يخرجُ مِن عملٍ حكوميٍّ ويدخلُ عملاً آخر، ويبحثُ عن ثالث، وهكذا دواليك على حدِّ قَوْله؟! ولكنْ مَعَ إصرارِ الشَّاب على صِدْق قَوْلِه، وأنَّه لا يَمْلك سِوَى الرَّقم المدنيِّ، غادَرَ المحقِّقُ المكتبَ ومَعه الرَّقم المدني، بعد أنْ طَلَبَ مِنَّا البقاءَ في المكتب.

عَادَ إليْنَا بَعْد فترةِ انتظارٍ طويلة، حاملاً كثيًرا مِن تفاصيل الشَّاب، وكَانَ مِن أسبابِ تأخِيْرِه عَليْنَا أنَّه ظلَّ يتَّصل بإخوان الشَّاب بَعْد أنْ توصَّل إلى أرقام هَوَاتفهم مِن خلال الرَّقم المدنيِّ لأخيهم، في الوَقْت الذي كَانَ يقُوْل فِيْه الشَّاب إنَّه لا يُوْجَد لديْه إخوة.

جَلَسَ المحقِّقُ على مَكْتبه مُخاطِبًا الشَّاب الثَّلاثيني بكثيرٍ مِن الحَقَائِق التي أَخْفَاها عَنْ نَفْسِه، وعلاقته بأهلِهِ؛ حَيْثُ سِجله مَلِيء بالقضايا اﻹجراميَّة، وحيث إنَّه خَسِر أهْلَه وعَملَه، ولازمَ أُمَّ الخبائث ورِفَاق السُّوء، وابتعدَ عَنْ رَبِّه؛ فإنَّ تلكَ نتيجةٌ حتميَّةٌ أنْ تَكْثُر عَلَيْه القَضَايا، ويُصْبِح مُتسوِّلا مُشرَّدًا بَيْن البُلدان والمناطِق، رَغْم أنَّ مَلامِح وَجْهِه لا تُوحي بذلك قط.

وَاصَلَ المحقِّقُ حديْثَه مَعَ الشَّاب نُصْحًا ووَعْظًا، وتارة زَجْرًا وغلظةً؛ مِمَّا جَعَل الشَّابَ يخرس عن الحديث والرد، ويبقى مُطَأطِئ الرَّأس، كما وَاصَل اتصالاته مَعَ إخوانِ الشَّاب واحدًا تِلْوَ الآخر بحُضُوْرِنا.

وحَيْثُ إنَّ وصولَ الشَّاب المشرَّد إلى مَرْكَز الشُّرطة لَيْس بتُهمةٍ سِوَى مَا ذَكَرناه، وأنَّ القَضَايا المسجَّلَة عَلَيْه سابقًا -والتي كانَ المحقِّقُ أمينًا فِي الاحتفاظِ بسرِّيَتِها- تمَّ إنهاؤها؛ فقد اقتصرَ دَوْر المحقِّق على النُّصحِ والوعظِ والتَّواصُل الهاتفيِّ مِعَ إخْوَة الشَّاب؛ أملاً فِي اﻷخذِ بِيَدِ أخيْهِم إلى جادَّة الصَّواب وطريقِ الرَّشاد، والذين أبْدَوا استعدادًا كبيرًا لذلك، بعد أنْ فَقَدُوا أخْبَارَه أكثرَ مِن عامٍ كامل.

انْتَهى المشهدُ هُنا، ويستطيعُ القارئُ الكريمُ أنْ تَكُوْن لَه فِيْه وقفاتٌ عدَّة وفوائد جَمَّة يستفيْدُها، وأكتفِي بالوَقَفَات الخَمْس الآتية:

أولاً: لَقَد كانتْ أمُّ الخبائث -ولا تزال، وستظلُّ ما بَقِيَت الحَيَاة- أساسَ البلايا والمصائب، وطريقَ الدَّمار والخَرَاب لمتعاطِيْها.. ستبْقَى خرابًا وتدميرًا لصحَّتِهِم ولأسرِهِم، وتهديدًا للأمنِ والاستقرارِ، وخُسرانًا مُبينًا يَوْم القِيَامة، إنْ لَمْ يتُب صاحِبُهَا؛ يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون" (المائدة:90-91). وهُنَا، لا نزال نَأْمَل ونَرْجُو اليومَ الذي يَكُوْن المجتمعُ فِيْه خاليًا من الخُمُوْر وخاليًا مِن الشَّباب المخمُوْرِين. ولا رَيْبَ أنَّ الجميعَ يعرفُ دَوْرَه ومسؤوليَّته فِي هذِهِ القضيَّة؛ سواء الجهات الحكوميَّة أو الأفراد.

ثانيًا: إِذَا كانَ تَجَوُّل المواطنِ دَاخِلَ بلدِهِ مِن غَيْر هُويَّة أمرًا غَيْر مقبول، وقد تنتُجُ عَنْه آثارٌ غَيْر مَحْمُوْدة، فماذا يُمْكِننا أنْ نَقُوْل عَن آلافِ العمالةِ الوافدةِ التي تَسْرَح وتَمْرَح فِي شتَّى أنحاءِ البلادِ وهِي مِن غَيْر إقامةٍ شرعيَّةٍ، ولا تملُك أيَّ هُويَّة؟! إنَّ ذلك يَسْتَدْعِي أنْ تَتَضَافَر الجهودُ وتُشدَّد الرِّقابة -بشكلٍ أكْبَر، ونطاقٍ أوْسَع- مِن قِبَل جَمِيْع الجهات المعنيَّة وأفرادِ المجتمع؛ للقضاءِ عَلَى هذهِ الظَّاهِرَة الخَطِيْرة التي أصبحتْ تُؤرِّق الجميعَ، بل إنَّها -إنْ بقيت عَلَى وَضْعِها- ستُشكِّل خطرًا لا يُستهان بِه عَلَى أمْنِ المجتمعِ واستقرارِه، فضلا عمَّا تُخلِّفه مِن آثارٍ اجتماعيَّة واقتصاديَّة عَلَى الوَطَن والمواطن.

ثالثًا: لَقَد سَرَرنا كثيرًا بالحسِّ الدينيِّ الذي خاطبَ بِهِ المحقِّقُ هَذَا الشَّاب؛ فَقَد كانَ النُّصحُ والوَعْظُ والتَّذكيرُ بأهميَّة طاعةِ اللهِ، والتذكيرُ بنهايةِ الإنسانِ، حاضرًا غالبًا فِي حَدِيْثِه مَع الشَّاب، وهَذَا مَا نَرَاه لا بُدَّ مِنْه فِي مِثْل هَذِه القَضَايَا قبلَ الولوج فِي حَدِيْثِ القوانين والعُقُوْبَات، وهو ما نفتقده -وللأسف الشَّديد- عِنْد كثيرٍ مِن فِئَات المجتمع، وعِنْد كثيرٍ مِنْ رِجَال الشُّرطة؛ فشرطيُّ المرورِ فِي كثيرٍ مِن اﻷحْيَان سُرْعَان مَا يُسلِّمك المخالفةَ المروريَّةَ دُوْن تَوْجِيْه نصيحة أَوْ وَعْظ وتبصير، ولرُبَّما كانتْ النصيحة أكثرَ وقعًا وأكبرَ أثرًا وأجْدَى نَفْعًا عِنْد المخالفِ مِن تَسْلِيْمه مُخالفة مروريَّة بطريقةٍ قَد يظلُّ ساخطًا وغَيْر آبِهٍ بأنظِمَة المرور، ولا أقصدُ هُنا أنْ يُكتَفَى بالنَّصِيْحة فقط، وإنَّما الأمورُ تُقدَّر بقدرها، ولكنْ مِن الأهميَّةِ بمكانٍ أنْ تكُوْن النَّصِيْحة حاضرةً فِي جميعِ الأحْوَال؛ فالدينُ النَّصيحة، وهي واجبةٌ في مِثْل هذِهِ المواقف.

رابعًا: عِنْدَما يكشفُ لكَ الجهازُ -وفِي سُرْعَة كبيرة- مِنْ خلالِ الرَّقمِ المدنيِّ تفاصيلَ صَاحِبِه، وسيرةَ حَيَاتِهِ، ومَا لَه ومَا عَليْه؛ فإنَّ ذلك يُؤكِّد ويُبَرْهِن أهميَّة وقيْمَة وضَرُوْرَة تفعيل الحُكَومَةِ الإلكترونيَّةِ فِي شتَّى المجالات، وأنَّها أصبحتْ ضَرُوْرَة لا مَنَاص مِنْها فِي مُختلف المؤسَّسات. ومَا وصلتْ إليْهِ شُرطة عُمان السُّلطانيَّة فِي هَذَا الشَّأن جَهْد مَشْكُور مُبَارك، آملين أنْ تتنافسَ جميعُ المؤسَّسات الحكوميَّة فِي تفعيلِ الحُكوْمَة الإلكترونيَّة؛ تسهيلاً وتيسيرًا عَلَى المواطنِ فِي تقديمِ الخَدَمَات وإنجازِ المعاملات.

خامسًا: المواطنُ الفرد شريكٌ أساسيٌّ فِي حِفْظ اﻷمنِ دَاخِل بلدِه، وعليْهِ تقديم النُّصح لِمْن يجبُ لَه النُّصح، والتعاون مَع اﻷجهزةِ اﻷمنيَّة فِي هذا الشأن، وأنْ يكُوْن أكثرَ حذرًا عِنْدَما يُصادف مِثْل هَذِهِ الحَالات التي تتَّخِذُ مِن المسْكَنَةِ غطاءً لها... والله المسْتَعَان.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك