محاولة لوصف المكان العماني

أحمد الرحبي

في إمكان الزائر للسلطنة وهو في جولة باتجاه المنطقة الشرقية من عمان مثلاً أن يقطع ضفة وادي سمائل تاركًا في تلك الأثناء جبال الحجر الغربي وراء ظهره مغادرا صعودا المنطقة الداخلية وموليًا وجهه لاستقبال جبال الحجر الشرقي في سبيله باتجاه الشرقية، في إمكانه وهو يقطع وادي سمائل في الجزء الأعمق من مجراه أمام قرية سرور، أن يقف في نقطة مفصلية وهو يخوض الأمواه الغزيرة التي تجري منحدرة في عمق الوادي باتجاه بحر عمان لتبلل بعذوبتها قبل أن تختلط بمياه البحر المالح أجزاءً من اللسان الأخضر لسهل الباطنة الخصيب في ولاية السيب، نقول في إمكان الزائر أن يرسم في ذهنه جسرًا متخيلا يربط السلسلتين الحجريتين الغربية والشرقية.

فوسط مكان قاحل وجاف بتضاريسه الجبلية الجرداء يبرز المكان الذي يشكل الجغرافيا العمانية بثوب زاهٍ قشيب من الخضرة اليانعة التي تتوزع على امتداد الأرض العمانية على شكل واحات هي بمثابة جزر خضراء وسط امتداد صخري أجرد إلا من قليل من شجرات السنط التي أحناها توالي مواسم الجفاف والقحط على وجوهها حيث واجهت موتها بكبرياء في موت واقف لم ترض فيه السقوط، وإلا من قليل من الشجيرات الصغيرة الخضراء الباسقة هنا وهناك في مجاري السيول ومصباتها كنتيجة لآخر الهطولات المطرية التي على موعد غير ملزم مع المكان هنا عادة في بدايات الشتاء وفي أواسط الصيف حيث يكون المكان هنا بقمم جباله الشاهقة مصيدة ملائمة لأية تكونات من السحب والخلايا الرعدية الممطرة والتي تندفع في العادة إلى مجال مصيدة جبال الحجر على شكل منخفضات جوية وأخاديد وفي بعض الحالات شبه النادرة على شكل أعاصير يفيض بها بحر العرب ذلك الامتداد المجنون والغامض والساحر في نفس الوقت للمحيط الهندي، كما تأتي مندفعة إلى مصيدة جبال الحجر كقطيع ثيران النو الجامحة من اتجاه بر فارس عابرة بحر عمان على عجل أسراب سحب داكنة منتفخة الأوداك، كي تهطل وتفرغ حمولتها من المطر على قمم وسفوح الجبال العمانية، أما في وسط الصيف شديد الحرارة فإنّ المكان في موعد دائم لكن بحاصل وبنتائج أقل من المطر الذي يهطل على قمم الجبال الشاهقة على شكل تكونات محلية من السحب الركامية الممطرة على طول امتداد السلسلة الجبلية لجبال الحجر العمانية وتحدث الهطولات المطرية المتفاوتة الغزارة في العادة قبيل المساء بعد الاحترار الذي يحدث في طبقات الجو العليا فوق قمم جبال الحجر التي تحتجز على سفوحها الرطوبة القادمة من اتجاه البحر (بحر عمان وبحر العرب) حيث تتحول هذه الرطوبة بفعل الاحترار إلى سحب ركامية ممطرة.

وإذا كانت الجبال في التضاريس العمانية الفريدة هي بمثابة القرب الهائلة العملاقة التي تتلقف الماء الهاطل من السماء فإن الأودية هي الأداة الطبيعية المتميزة لهذه الجغرافيا التي نحتتها الطبيعة طوال قرون سحيقة، في توزيع الماء المندلق بفعل الغزارة الشديدة، من الجبال، بشكل متساو عادل بالمعنى الطبيعي للكلمة والتي تستقر في الأخير حمولتها من الماء بعد رحلة ملتاثة ضاجة بالعنفوان والهدير في المنحدرات العليا للسفوح، في الأحواض السفلية للأودية، مشكلا الانحدار الشديد وزاوية الميلان الحاد العنيف من أعلى قمة جبلية إلى بطن الوادي التي تتميز به طبيعة التضاريس وكتلتها الجيولوجية، المايسترو الذي يقود قطرات المياه المنحدرة في عزف هارموني صاخب بالهدير.

لذلك تعتبر الأودية هي الملمح الأبرز والمهم للتضاريس العمانية. ملمح لا يمكن فهم لا تاريخ ولا تجربة الاجتماع لإنسان هذه الأرض بدونه من حيث كون أن أغلب القرى في عمان كملمح ثابت للجغرافيا العمانية في بعديها الاجتماعي والاقتصادي تنبت في معمارها وبمرافقها وببساتينها ومزروعاتها دائما بجانب الأودية التي تمدها بالخصب والنماء، فهي تعتبر أنهارا موسمية تفيض بالخصب، فنتيجة لوجود الجبال في المكان كمكون أساسي هنا يسهم إسهاما كبيرا في تشكيل تضاريس المنطقة، حيث تعتبر الأودية والمجاري السيلية الملمح الطبيعي الواضح للمكان والذي يخلق خصوبته ويحافظ على ديمومة الحياة هنا وسط مناخ جاف وشديد الحرارة، فقد ساهمت هذه الأودية والمجاري السيلية بما تحمله من كميات غزيرة من المياه تغلغلت على مدى آلاف السنين في أعماق طبقات الأرض السفلية مما أتاح تشكل أحواض وخزانات جوفية غزيرة بالمياه التي تعتبر مادة الحياة الأولى، كما ساهمت هذه الأودية بما استمرت على جلبه طوال آلاف السنين في فيضاناتها المتوالية الحدوث بلا توقف بمادة الطمي الذي شكل على توالي القرون تربة غنية بالمعادن والمغذيات الأولية لتكون صالحة للزراعة ترسبت على ضفاف الأودية، مما مكن الإنسان وسط هذا المكان المجدب والقاحل من ممارسة نشاط زراعي متطور، حيث استطاعت عبقرية الإنسان الذي عاش في هذا المكان من تسخير الإمكانيات القليلة النادرة والشحيحة المتاحة فيه لغرض تنمية حياته وتطويرها برغم كل العوامل الطاردة التي يفيض بها المكان في هذه الأنحاء من الجغرافيا الصحراوية القاسية، الحارة وشديدة الجفاف، وسط هذه الأجواء من الصعوبة والقسوة ومن التصميم و الإصرار على التجذر في المكان بتسخير أقل الإمكانات المتوفرة فيه والإفادة منها من أجل دحر الصعوبة والقسوة وإيجاد وخلق هامش للتعايش مع المكان برغم صعوبته وقسوته، كانت الجغرافيا العمانية قريبة الشبة بواحة تزداد إصرارا في كل يوم على البقاء خضراء يانعة الخضرة ترسم مسحة أمل وسلام من بعيد، حيث تنكفئ على نفسها في وحدة متعبدة فهي عبارة عن غابة واسعة من النخيل مشكلة مظلة هائلة من الظل والفيء وسط مناخ شديد الحرارة ومتطرف إلى أبعد الحدود بدرجات حرارته.

حيث يمتاز المكان العماني بسحر ينغلق على إنكفاءة متوحدة لا يفض طلسمه وسط أطواد الجبال التي تتشكل منها تضاريس المكان ففي إطاره (المكان) لم يزل يكتنف نشاطا سكانيا متجذرا منذ آلاف السنين نتيجة صيرورة تكيف لم تفتأ تتواصل على مدى زمني بعيد وتتراكم خبرتها الإنسانية من حيث المعيش في مسرح المكان وخلق ذاكرة جمعية معه (أنسنة المكان وجعله قابلا لاحتضان التجربة الاجتماعية والإنسانية) بعدما انتزع الإنسان هنا - في تحد لا يضاهى شروط بقائه في إسار قسوة ورهبة طبيعة وعرة قاسية- حرونا غير قابلة للإخضاع مصونة في بكارتها، وكان النخل سيد المكان هنا، بخضرته اليانعة والإنسان سادنه، وسط احتشاد كبير من القمم الجبلية فهي ضئيلة هذه المساحة الخضراء نقطة خضراء بالكاد وسط محيط جبلي وصحراوي جهم.

ففي المسالك الجبلية الوعرة على أجناب وحواف المرتفعات الصخرية وبين الوهدات والمنخفضات أسفل الهضاب وفوق الذروات الشاهقة المطلة على الأخاديد والمجاري السيلية العميقة دائما هناك طريق ترابي يرتسم في شكل افعواني يمضي صعودا إلى مكمن قرية أو هبوطا إلى قرية أخرى يخفره الدوار هذا الطريق.

وفي الأخير تعتبر النخلة هنا سيدة المكان والملمح الأبرز فيه فهي التي تهبه رداء قشيبا من الخضرة مرفوعا على قاماتها السامقة كراية خضراء حيث ما يكسر حدة عتو التضاريس ويرسم مسحة تصالح مع الوحشية الجبلية القاحلة بروز قمم النخيل الباسقات، مشكلة بحضورها الكثيف في أرجاء المكان بحرا من الصبغة الخضراء تحت سماء هي تمثل وكر الشمس الفائضة في هذه الأنحاء بطاقة هائلة من الحرارة والإشعاع القوي الذي يغمر المكان وكأنما متلازمة قرص الشمس الفائر بحرارته والنخلة السامقة الخضراء هما المبتدأ الأزلي للمكان هنا، أما الجبال تلك المتجهمة في وجه السماء، الجرداء والتي هي بمثابة أسوار للمكان التي حمت ميسرته وميمنته وحصنته في وجه كثير من الأعداء ازدحمت بهم الجغرافيا والتاريخ في هذه المنطقة التي تعتبر امتدادا لسهوب الشمس والتي تتخذ الصحراء بحبات رملها التي لا تحصى مسبحة لها، ربما تكون هذه الجبال ثابتا جيولوجيا سحيقاً لكنها لا تقاس بالعمر السحيق للشمس وربيبتها النخلة.

تعليق عبر الفيس بوك