المسرحيَّة الأمريكيَّة الإيرانيَّة

علي المعشني

عام 1979م هو عام فيصل واستثنائي -بلا أدنى شك- في تاريخنا السياسي العربي المعاصر، وفي تاريخ المنطقة والعالم كذلك.. ففي هذا العام وصلت الثورة الإسلامية في إيران إلى الحكم في بلادها وعلى أنقاض عرش الطاؤوس الأسطوري؛ فخلقتْ بذلك واقعًا سياسيًّا ودينيًّا وفكريًّا غير مسبوق وغير مألوف وغير مُستساغ للبعض كذلك، ممن ألفوا المألوف ودجَّنوا العقول وحقنوها لعقود بنظريات وأطروحات ألغتها الثورة الوليدة على الفور، وبنت على أنقاضها أطروحات ثورية جديدة أخلت بالموروث الفكري والسياسي الذي توارثته الأجيال في المنطقة، وأجابت عن أسئلة مُعلقة وحائرة في الأذهان والعقول لطَيْف واسع من الأمة.

أجابت الثورة الوليدة عن سؤال أزلي وهو: هل يمكن أن يصل الإسلاميون إلى السلطة ذات يوم؟ ثم بدأت تجيب عن جملة من الأسئلة الموروثة تباعًا من حيث ماهية الصراع العربي الصهيوني ومستقبله، وحقيقة الكيان الصهيوني والمتصهينين معه من العرب والأعاجم.

الحقيقة أنَّ الثورة الإيرانية لم تكن شأنًا إيرانيًّا داخليًّا محضًا؛ فهي بالتداعي والشعارات -ثم بالنتائج على الأرض- ثقافة ثورية عابرة للحدود والأجيال بكل المقاييس والمعاني والرمزيات؛ لهذا فمن الطبيعي جدًّا أن تكون لهذه الثورة الزلزالية عداوات ومؤامرات بحجمها وبحيويتها وبمراحلها وبتداعياتها.

جميعنا يعلم من هو الشاه وما وظيفته في المنطقة، منذ ما سُمِّي بمبدأ نيكسون "غوام" عام 1969م، والقاضي بدعم الحلفاء في المنطقة بلاحدود لحماية أنفسهم وخدمة مصالحهم دون الحاجة إلى تدخل أمريكي مباشر، خاصة بعد الانكماش العسكري والسياسي لأمريكا نتيجة حرب فيتنام. وبهذا المبدأ، قام الكيان الصهيوني وشاه إيران بكل وظائف وتفاصيل مبدأ نيكسون في المنطقة، وهذا المبدأ بالمناسبة يُعتبر النسخة المجدَّدة من مشروع الشرق الأوسط الجديد وفق المخطط الغربي بعد سقوط حلقته الأولى وفشلها والمتمثلة بحلف بغداد والذي أنشأته بريطانيا عام 1955م.

الشعبُ الإيرانيُّ بطبيعة الحال لم يقُم بثورته على الشاه من أجل العلف والترف (الغذاء والدواء والرقص للسواح والملاهي)، بل من أجل الشرف، هذا الشرف الذي اختطفه الشاه ورهنه للغرب مقابل تغريب وعمالة وانتهاك تدريجي للإرث الحضاري الإيراني من دين وتاريخ ومقدرات وممكنات بشرية وطبيعية.

من الطبيعي أن تحمل كلُّ ثورة حقيقية مشروع جامع لفئات الشعب، خاصة إذا كان هذا الشعب بفسيفساء المكون الإيراني، متعدد الطوائف والمذاهب والعرقيات والثقافات. ومن هنا، كانتْ عبقرية الثورة أن تنتج الإسلام كقوة جامعة لمكونات الطيف الإيراني بأكمله، وأن تتسلح بعقيدة من عيار الإسلام بعد أن استعرضت تاريخ وإخفاقات جميع الحركات الإصلاحية والوطنية في النسيج الإيراني المعاصر؛ حيث تسلَّحت تلك الحركات واتسمت بالنخبوية الفكرية أو العرقية أو الطائفية أو بأحادية الطرح والنظرة؛ وبالتالي سهل القضاء عليها، رغم ما تحمله من برامج إصلاح لعموم الوطن وقاطنيه.

جميع الثورات في العالم حملتْ مشروعات مغايرة لما ثارت عليه، مشروعات تُمثل المزاج العام ومشاعر العقل الجمعي للشعوب، وإلا لما كان هناك من داع لقيامها. فجميع الثورات التي قامت ضد مستعمر ومحتل غربي، حملت مشروعات اشتراكية كالثورة الجزائرية والكوبية وفي اليمن الجنوبي، والثورات التي قامت على نظم وراثية متغربة كثورة يوليو في مصر، كان لزامًا عليها النهج الإشتراكي في ظل الجمهورية لتحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة ومحاربة الإقطاع والقضاء على الطبقية المُعيبة.

لهذا؛ لم تشذ الثورة الإيرانية عن قواعد الثورات على الإطلاق؛ فقد وحَّدتْ الجبهة الداخلية أولًا تحت شعار الإسلام لتتجاوز كل مثالب وعثرات الحركات الإصلاحية التي سبقتها ومستفيدة من هناتها، وكان لابد لهذه الثورة من بُعد أممي يتناغم مع النسيج الداخلي فكانت قضية فلسطين.

العروبة السياسية لإيران في المنطقة قرارٌ إستراتيجيٌّ حضاري، وليس خيارًا عابرًا أو فرارًا مؤقتًا، للخروج من العُهدة الشاهنشاهية بأكملها وإبراز هوية الثورة في الداخل والخارج؛ فقد مدَّ الغرب جسورًا وفتح أقنية كثيرة مع الثورة الوليدة -ترهيبًا وترغيبًا- وفي جميع أطوارها لتحجيمها وحصرها في الشأن الداخلي والجغرافيا الإيرانية، مع الإبقاء على بعض المصالح الغربية وفق ندية سياسية وتكافؤ مع الغرب، لضمان عدم انغماسها في محور الصراع العربي-الصهيوني كخط أحمر، بعد تحييد مصر، وبدأ عصر التبشير بكامب ديفيد وأخواتها وسريان ثقافة التطبيع مع العدو الصهيوني والترويج للقضاء والقدر الأمريكي من قبل تيار التطبيع وعلى أوسع نطاق.

راهن الغرب في مراحل من مخططه للجم الثورة وتحجيمها على تغليب عناصر ومكونات إيرانية تتقاطع مصالحهم مع برامجهم، بعد الإنهاك الغربي المنظم للثورة عبر الحروب الطويلة والمؤامرات والحصار الاقتصادي، كالتيار الفارسي أو التيار الليبرالي (الإصلاحي) مثلًا، بقصد ضرب مشروع تيار العروبة السياسية لإيران، ومن يتذكَّر حملة مير حسين موسوي وجملته الشهيرة "أن الشعب الإيراني أولى بالأموال التي تنفق على حزب الله وحماس والجهاد"، يتيقن أنَّ دغدغة مشاعر الإيرانيين بهكذا شعارات في زمن العصا والجزرة، ليست سوى عنوان خفي لأجندة كبيرة فحواها سحب إيران تدريجيًّا من الصراع العربي-الصهيوني والانكفاء على الذات، وهي في حقيقتها خدمة جليلة للمشروع الغربي وانتصار كبير له.

من أنجز الاتفاق النووي هو التيار العروبي لا غيره، ولو كان غيره من التيارات لما رأينا الحملة الشعواء على الاتفاق من قبل تيار التطبيع والنائحون من حولهم؛ نتيجة تيقنهم أنَّ أمريكا أحالتهم للتقاعد المبكر، ومنحتْ لهذا التيار صكَّ انتصار "مجاني" شكَّل طعنة نجلاء لمن يُسمُّون أنفسهم حلفاء إيران في المنطقة.

فسمعنا سيلًا من الافتراءات والكذب والتضليل، عن مسرحيات إيرانية-أمريكية مزعومة إلى سيناريوهات من تحت الطاولة، إلى مخططات وتوافقات لضرب أهل السُّنة في العالم الإسلامي....إلخ.

المشكلة أنَّ أصحابَ هذه الحملة هم من أهم المسرحيين المحترفين والمشهود لهم على أرض الواقع العربي والإسلامي، وهم كيانات وظيفية للغرب بنجابة وامتياز لعقود خلت، وهم ممَّن لايفرِّقون بين قواعد السياسة وأعراض التهريج السياسي.

من يُعادون إيران منذ العام 1979م بالتحديد، هم من جهلوا إيران وما زالوا، ومن جهل شيئًا عاداه بلاشك، ولو كان عداءهم لإيران نتيجة علم ومعرفة لسرنا في ركبهم وأثرهم بلاتردد. فلنرَ إيران والإيرانيين بأعينهم لا بأعيننا.

قبل اللقاء: "يقول خبير إستراتيجي أمريكي: مشكلة حلفائنا في المنطقة أنهم لا ينقلون لنا حقيقة إيران، بل ما يتمنونه لإيران. وبالشكر تدوم النعم".

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك