ثنائيَّة الإصلاح والسلطة في حياة الإمام إبراهيم بيوض الجزائري

 

نادية اللمكي

شَهِد المغربُ العربيُّ في القرن التاسع عشر -وحتى منتصف القرن العشرين- تحوُّلات جذية كبرى، ارتبطتْ بالصدمة الحضارية التي أورثها دخول المستعمر الأجنبي، وتحكُّمه بالوضع الاقتصادي والسياسي آنذاك، وما ترتَّب عليه من تأثير ثقافي واجتماعي، وبردة فعل على هذه التغيُّرات ظهرتْ مشاريع مناهضة للاستعمار، بَنَتْ فكرها النضالي الأول على تجديد الدعوة إلى فهم الدين بين الشباب، وإحياء فكرة الوحدة الإسلامية التي تبناها المؤسس الأول جمال الدين الأفغاني.

الباحثُ والكاتبُ الجزائريُّ عز الدين جلولي يعتني في مقاله "الإصلاح في إطاره الوحدوي عند الإمام إبراهيم بيوض الجزائري"، بشخصية الإمام إبراهيم بيوض الجزائري، الذي حاول قراءة الواقع المغربي تحت وطأة الاستعمار، وبنى مشروعه الإصلاحي لطرد المستعمر ومحاولة تجديد فهم النص الديني.

لقد بدأ الكاتب الجزائري عنوانه بوصف مشروع الشيخ بيوض بالإصلاح "الوحدوي"، وجاءتْ هذه الدراسة تبحث إنجازات الشيخ على مستوى الوحدة الوطنية أولًا، وعلى مستوى الدعوة إلى وحدة الأمة الإسلامية ثانيًا. وقد حاولتْ الجمع بين تاريخ السير وبين تحليل الأحداث، وشكل المكان فيها العنصر الأول، واختفى التسلسل الزمني مع حماسة الكاتب في السرد والتحليل؛ فبدا النصُّ على مستوى ترابط الوقائع وتسلسلها مفككًا نوعًا ما. وقد بدأ الكاتب دراسته مشيرًا إلى أنَّه سيجعل الحديث عن الإباضية في وادي ميزاب منطلقًا للوصول إلى موضوع الدراسة؛ ولربما هذا ما جَعَل الرَّبط بين العنوان "الإصلاح الوحدوي" وبين مدخل الدراسة مربكًا إلى حدٍّ ما.

لقد كانتْ شخصية الشيخ إبراهيم بيوض الجزائري واحدة من الشخصيات التي تبلورتْ ثقافتها في ظلِّ الاختلافات؛ فهناك المستعمر الفرنسي الذي فرض لغته وثقافته وسياسته في الجزائر، وهناك المدارس الفكرية والفقهية حوله والتي نشأتْ جنبًا إلى جنب مع المذهب الأباضي في قريته. وأما الأخير، فهي لغة الشيخ وثقافته الأعجمية، والتي استدعى معها أن يُتقن العربية لتكون مدخلا لتعلم علوم الدين والبلاغة والمنطق. إنَّ هذه الاختلافات كلَّها مهَّدتْ لأمرين؛ الأول: المنهج الدعوي المنفتح والمقبل على الآخر الذي تبناه الشيخ لاحقًا. وأما الثاني، فتبنيه مشروع الوحدة ودعوته له على مستوييه الديني والوطني؛ وحدة إسلامية تجمع المسلمين وترفض الشقاق لأجل الاختلاف فقط، ووحدة وطنية وقفتْ ضد تقسيم الجزائر إلى جزئيها الصحراوي والشمالي ليفشل بفضله وبجهود الثوار هذا المشروع الاستعماري.

وقد أثار اهتمامِي حديثَ الكاتب في مقالته عن جهدٍ استمرَّ خمسة وأربعين عامًا، قضاها الشيخ في تفسير القرآن الكريم حتى العام 1980 مُتأثرًا فيه بمنهج المفسرين المجددين في عصره. هذا الجهد المتواصل لأكثر من أربعة عقود في تفسير القرآن الكريم في الوقت الذي كانت فيه المكتبة الإسلامية تضمُّ عددًا من التفسيرات، وفي الوقت الذي كان فيه التركيز الأكبر في الجزائر على محاربة المستعمر وتحرير البلاد وتسخير الكتابة لذلك، هذا الأمر يجعلنا نقرأ فكر الشيخ بفهم أكبر؛ لقد أدرك إبراهيم بيوض أنَّه يجب رؤية هذا الدين في إطار حركة الزمن والتاريخ والبيئة والمجتمع، وهذا يتطلَّب بناء فهمٍ معاصرٍ للدين، وأول أدواته القراءة الجديدة للنص الديني، والتلقي المتغير للقضايا الفقهية. والأمر الآخر: إيمان الشيخ بأنَّ التربية الدينية المبنية على الفهم العميق للدين هي ما سيجعل الشباب أكثر إدراكًا لدورهم وواجبهم تجاه الوطن والأمة.

وبالعودة إلى ما كتبه الباحثون حول تفسيره "في رحاب القرآن" -ومنهم: الباحث العماني عبدالله بن سليمان الكندي- نلحظ أمرين أساسيين؛ الأول: المنهج الذي اتبعه الشيخ في تفسيره، والذي تأثر فيه بالشيخ محمد عبده، مركِّزًا على البلاغة وربط المواقف والأحداث بالنص ومحاولة تصحيح المفاهيم برصد المعاني المختلفة للفظ الواحد. والثاني: أنَّ التجديدَ لم يكن بالقراءة المختلفة للآيات أو افتراض تأويلات مختلفة تمامًا عن تفسيرات السلف السابق من المفسرين، بل كان وجه التجديد بفرض "مقاصد" متنوعة ومرتبطة بالواقع، تخاطب القارئ مباشرة وتحاول تهذيبه وفق أسلوب تربوي. وهذا ما جعل التفسير -والذي كان دروسًا يلقيها الشيخ في المسجد- يلقى صدى كبيرًا في وقته.

وبالرجوع إلى نصِّ المقال، فقد حاولَ الكاتب إظهار التسامح الذي امتاز به الشيخ بإثبات الضد للغير؛ الأمر الذي أوقعه في إشكالية الحكم العام بمرجعياتٍ مسبقة؛ فهو يقول: "فلم ينكفئ على ذاته ويغلق بابه على مذهبه (...) بل كانت مقالاته وكتاباته ومشاركاته تتحرك على مستوى الوحدة، ولو تعارض ذلك مع موروث رضع لبانه صغيراً، أو تقليد قدسته بيئته حتى كادت تتخذه صنما". فهل كانت الوحدة تتعارض مع فكر موروثه الأول؟ وهل بيئة وادي ميزاب "الأباضية" يتعارض فكرها مع مفهوم الوحدة؟ ثم ذكر في غير موضع أن "بعض الأباضية الجامدين" شنَّعوا عليه وهجروه، ولو كان قد أشار إلى الجامدين دون ذكر مذهبهم لأكثر من موضع، لكان ابتعد عن جعلها سمة بارزة لهذه الفرقة في وادي ميزاب!

لقد بَنَى إبراهيم بيوض الجزائري مشروعه الإصلاحي على ثنائيتين واضحتين: الدين والسلطة؛ فقد كان يعمل على الطرفيْن باتزان، الدين وحده دون السياسة لن يكتب له الانتصار مع وجود المستعمر الفرنسي؛ لهذا عاش الشيخ بيوض مربيًا وثائرًا، وأنشأ جيلا من الشباب على ذلك، وقاد الجمعيات وافتتح معهد الحياة ليكون موازيًا لمعاهد التربية والتعليم التي تأثرت بثقافة المستعمر، وحاول الارتقاء في السلم السياسي في المغرب لتكون لكلمته سلطة نافذة في المجتمع؛ لهذا ارتأى الكاتب تسميته بـ"التنويري"؛ فهل يُمكن أن نعد الشيخ بيوض تنويريا بمعناه اللفظي؟

وقبل الإجابة عن هذا السؤال، وجب أولًا الإجابة عن السؤال التالي: هل استمرَّ مشروع الحركة الإصلاحية التي أنشأها ابن بيوض بعد انتهاء الاستعمار في المغرب؟ لقد كان هذا المشروع مرتكزًا في الأساس على الجمع بين التجديد الديني والإصلاح السياسي، وبتحقُّق هذا الأخير بتمكين الشرط الأول يكون المشروع قد جنى ثماره، لكن الحركة الإصلاحية لم تتوقف بعد الاستعمار واستمر معهد الحياة الذي أنشأه الشيخ يخرج شبابًا مصلحين -حتى اليوم- أمسكوا بزمام كثيرٍ من وظائف في الدولة، كما استمرَّ عطاء الجمعيات التي ترأسها الشيخ مستفيدًا من التنظيمات الإدارية الحديثة، وعُد منهجه في التعليم وأسلوبه في الحوار الديني واحدًا من المناهج التربوية المأثرة في الشباب؛ لهذا كله -ولامتداد تأثير منهجه- يُمكن القول بأنَّ الشيخ كان تنويريا بمعناه المرتبط بتجديد الفكر، واستمرار منهجه الإصلاحي.

لقد حَاوَل الكاتبُ في هذا المقال بَسْط صورة عامة عن الإنجازات العملية التي قدمها الشيخ على مستوى المجتمع المدني وعلى مستوى الدعوة إلى الوحدة، غير أنَّ الدراسة لم تتحدَّث عن منهج الشيخ الإصلاحي على مستوى الفكر وتحليل الإنتاج المعرفي؛ لكونها ركزت على القراءة التاريخية للأحداث مع تحليلها. وقد وُفق الباحث بأسلوبه المبني على ثلاثية "المؤثر والسبب والنتيجة" في جعل الأحداث مسيرة بفعل العوامل المكانية والزمانية.

تعليق عبر الفيس بوك