الشرط الإنساني

ناصر محمد

يرتبط مفهوم "الشرط الإنساني" بالروائي الفرنسي "أندريه مالرو" (1901-1976) وذلك لروايته التي كتبها بذات الاسم عام 1933. والشرط الإنساني، باعتباره شرطًا، يحدد توجه الإنسان في مصيره. فهو ليس حرًا بالمعنى الواسع بقدر ما هو في الحقيقة رهن للظروف التي تحيط به، سواء كانت حروبا أو أيديولوجيات أو حتى في حالة السلام.

والغاية من تحديد الشرط الإنساني ليس التسليم به كقدر محتوم بل شرط ينبغي الثورة عليه، وذلك بتأكيد عدم ذوبان الإنسان في الجماعية المقيتة التي تذوبه وتعدم هويته. ويعتبر التاريخ في ظل هذا الشرط هو المحرك الأكبر الذي ينبغي أن يواجه بالرفض، ولهذا كتب مالرو هذه الرواية إبّان صعود التيّارات الشمولية في تلك الفترة كالشيوعية والفاشية والنازية إذ أن خيار الإنسان بات معدوما أمام هذه التاريخانية المرعبة.

ولقد كتب كثير من المفكرين والأدباء بخصوص هذا الشرط الإنساني وهيمنة التاريخ عليه مثل الشاعر الفرنسي "بول فاليري" حين يقول: في التاريخ يزول الأشخاص الذين لم تقطع رؤوسهم والأشخاص الذين لم يساهموا في قطع الرؤوس دون أن يتركوا أثرا يذكر. يجب أن يكون المرء ضحية أو جلادا، وإلا فإنّه لاقيمة له". كما يقول "إريك كاستنر" على لسان إحدى شخصياته في مسرحيته "مدرسة الديكتاتوريين": "إن علينا أن نحافظ على رؤوسنا حين يقوم الآخرون بصناعة التاريخ. ذلك أنّه حين يصنع هذا التاريخ، سلباً أو إيجاباً، فإن الأفراد، الناس، البسطاء، يكونون هم أول الضحايا."

ويتوغل الروائي التشيكي "ميلان كونديرا" كثيرا في الشرط الإنساني حتى في الظروف الديموقراطية عندما تسقط المعاني أمام التقنية والشهرة والكاميرا، عندما يكون الجميع مهووسين بذلك الجمهور اللامرئي والراقصين لجذب الانتباه له. يقول كونديرا على لسان أحد شخصياته في روايته "البطء": "سيدي العزيز، إننا لا نختار العصر الذي فيه نولد، نحن جميعا نحيا تحت عدسات الكاميرا. وهو ما أصبح، من الآن فصاعدا، جزءا من الشرط الإنساني. حتى عندما نشن حروبا، نخوضها تحت عدسة الكاميرا، وعندما نريد أن نحتج على شيء ما، لا نوفق في إسماع صوتنا من غير كاميرا."

أن تكون حرا في الرؤية في عالم تحكمه فئات متصلبة لهو شيء بالغ الصعوبة، فالإنسان في الدول الشمولية إما مع أو ضد، خائن أو وطني، متمرد أو قطيعي. في هذه الظروف من الصعب أن ينظر إليه على أنّه صاحب رأي متجرد من كل هذه التصنيفات. وفي الدول ذات الخلفية الطائفية تكثر الاتهامات المتداولة مثل: رافضي أو ناصبي، كافر ومرتد. وليس لمن أراد أن يثور على شرطه الإنساني إلا أن يتم وضعه في هذه الخانات إذا كان، بحكم الميلاد، قد وجد في إحداها. وربما لأجل هذا هاجر كثير من المفكرين العرب الكبار من هذه "المقصلة التاريخية" إلى الخارج مثل: جورج طرابيشي وهاشم صالح وعالم الميثيولوجيا فراس السواح وأدونيس. ولكن الهجرة لم تكن التحرر المطلق لهم إذا لم تصاحبها في نفس الوقت هجرة أيضا للشرط التاريخي الذي جعلهم أسارى لنماذجهم الإصلاحيّة، مثل أدونيس وشرطه بعدم خروج الثورة من المسجد، وطرابيشي وشرطه بأن تسبق العلمنة ثورة لاهوتية، وفراس السواح ومقولته في الحراك السوري: اتركوا جنازير دبابات النظام تصطدم مع تطرف المتطرفين ولا تتدخلوا، وهاشم صالح وشرطه التاريخي بضرورة وجود عصر الأنوار نظير التاريخ الأوروبي.

إنّ الثورة ضد الشرط الإنساني مهمة جدًا وذلك بأن يقدم الحاضر على كل الأزمنة، ألا يسرقنا الماضي عن الخطوة الصحيحة المفترضة في الحاضر، وللفرنسي "إيميل زولا" موقفه الشجاع أمام ذلك المد الديني المسيحي في الجمهورية الفرنسية ضد اليهودية، فكان أن وقف أمام المحكمة قائلا في دفاعه عن العلمنة ضد تغليب طائفة على طائفة: ستشكرني فرنسا لأني حفظت لها شرفها.

تعليق عبر الفيس بوك