مشبوه على قارعة الطَّريق (1)

عيسى الرَّواحي

رأيتُه في حرِّ الظَّهيرة يمشي بمُحاذاة الشَّارع؛ بجوار محلات إصلاح السيَّارات، وآثار التَّعب بادية عليه، فظننتُ أنَّ سيَّارته قد تعطَّلتْ، فاقتربتُ منه وسلَّمتُ عليه، وسألته مُطمئِّنا على حاله، ومتعرِّفا على أخباره، فأجاب بأنه يَمْشي في مكانٍ لا يعرفه؛ حيث أوْقفته سيَّارة الأجرة فيه، ويودُّ العَوْدة إلى بلدته البَعيدة التي تقعُ في محافظة أخرى.

طلبتُ منه أنْ يأتي مَعِي البَيتَ، ويُواصل بعدها مشواره، لكنَّه اعتذر، فعرضتُ عليه أنْ أوْصِله إلى أقربِ نقطةٍ مُناسبة يُمكن أنْ يجدَ فيها سيَّارة أجرة. وبَيْنَما يركب السيَّارة، إذْ بصديقي العَزِيز يقف أمام سيَّارتي، وعلمتُ أنَّه مُتجهٌ إلى مسقط، فطلبتُ منه أنْ يُوْصِل ابنَ السَّبيل إلى منطقةٍ ملائمةٍ على خطِّ سَيْره؛ ليُواصل مشوار عَوْدته إلى بَلدته.

عُدتُ إلى البَيتِ وفي نَفْسِي شُبهات وتساؤلات تدورُ حَوْل هذا الشَّاب، ولَمْ أستطع أنْ أستوعبَ ما حدَّثني به؛ إذ كَيْف نزل في منطقتِنَا تلك وهي ليستْ على خطِّ سَيْره، وزادَ حِيْرتي ما تشكَّكتُ فيه مِن رَوَائح مُنبعثة مِنْه، وما طَلَبَه مِنِّي قبل أن ينزلَ مِن السيَّارة.

التقيتُ صدِيقي العَزِيز في مَسْقط الجَمِيلة بعد ثلاثة أيَّام مِن هذا المشهد، وقال لي: إنَّ الشَّخصَ الذي رَكِب معي السيَّارة أثارَ الغَرَابة وعلامَات الاستفهامِ في ذِهْني؛ مِن خلال ما دَارَ بَيْننا مِن حديثٍ؛ فكيف ينزلُ في بَلْدَتنا وهي ليستْ على خطِّ سَيْر بلده؟! وكَيْف يودُّ أنْ يتَّجهَ إلى ولايةٍ ويطلبُ مِنِّي أنْ أوْقِفه في مكانٍ أبعد عليه بكثيرٍ في مَوَاقف سيَّارات الأجرة؟! وكيف يَمْشِي خمسة كيلومترات تقريبًا في المكانِ الذي وَجَدْناه فِيه؟! وكيف يَأتي مِن مكانٍ عَكْس اتجاه سَيْره ويقول إنَّه زارَ فِيْه شخصًا فَوَجَد بابَ منزلهِ مُغلقا؟!

قلتُ له: هل طلبَ مِنْك مبلغًا مِن المالِ قَبْل أنْ ينزلَ مِن السيَّارة؟ قال: نَعَم.

قلتُ له: إذنْ؛ فَهِي حرفةُ التَّسوُّل، والله أعلم.

بَعْد يَوْمَيْن مِن لقائِنَا فِي مَسْقط، وبينما كُنتُ في سيَّارتِي قريبًا مِن مَنْزلي بجوار المحلَّات مُتعدِّدة الخَدَمات؛ إذْ بِي أفاجأ بالشَّخْص نَفْسِه يَمْشِي هُناك مَشْي التَّائِه الحَيْران.. بقيتُ فِي السيَّارة وأطفأتُ المصابِيْح، وأنا أُتابعه؛ حيثُ يخرجُ مِن محلٍّ ويدْخُل آخر، اتصلتُ بصَدِيْقي، وحيثُ كَانَ هاتفُه مغلقًا، فقد علمتُ أنَّه يجلسُ بَعْد صَلاة العشاء في المسجد الذي يُصلِّي فِيْه فترةً مِن الوَقْت. خَرَج ورَكبَ مَعِي السيَّارة وأخبرتُه بالأمر، ذَهَبنا نبحثُ عِنْد المحلَّات التي كانَ يتردَّد عَليْهَا، ونحنُ نهدفُ إلى مَعْرِفة قِصَّة هذا الرَّجل، وحقيقة وُجُوْده فِي هذِه المنطقة؛ فقد أثارَ شُبهات عَدِيْدة حَوْل نفسه مِن خلال ما عَلِمْنَا عَنه، كما أنَّ تَكْرَار وُجُوْدِ غريبٍ دَاخِل قريةٍ مِن غَيْر هَدَفٍ لا يبعث على الطَّمأنينة والارتياح.

دَخَلْنَا عَلَيْه بَعْد أنْ علِمْنا أنَّه داخل المقهى جالسًا على أحْد كَرَاسيه، فسلَّمْنَا عَليْهِ مُبتسمِيْن، فردَّ مُنذهلا مُندهشا مُرتبكا، وقلنا له: "وَاصِل عشاءك، ونحنُ ننتظرُكَ بالخارج". وأثناء فترة انتظار خرُوْجه، اتفقنا على خطَّةِ الحديثِ وطريقةِ التَّعامل مَعَه. وبعد دقائق، خَرَج إلينا، ودَعَوْناه لركوب السيَّارة، وبَعْد عدَّة مُحاولات للاعتذار رَكِب معنا، فباشر القَوْل بأنَّ الأقدارَ ساقته مرَّة ثانية إلى هَذِه البَلْدة، وأقْسَمَ باللهِ أنَّه صَادقٌ فِيْمَا يقول.

قُلنا له: "إنَّنا مُستعدُّون أنْ نُقدِّم لكَ الخدمةَ التي نستطيع، ولكنْ قَبْل ذلك نؤكِّد لك أنَّ الصِّدقَ منجاة، ونرجُو منكَ أنْ تكونَ صادقًا مَعَنا فيما تقول، وليْسَ لنا مِن هَدَفٍ إلا مَعْرِفة حالِك وحقيقةِ أمْرِك، ومُسَاعَدتك ما استطعنا إلى ذلك سبيلاُ".

فردَّ: هي الحَقِيقةُ كما أخبرتُكم، ووالله لستُ بكاذبٍ عليكم.

كَانَ مَوْقفُنا واضحًا ثابتًا مَعَه بأنَّ ما سَرَدَه لنا مِن حديثٍ ليْسَ هو حقيقة أمره؛ فالعقلُ والمنطقُ لا يَقْبَلان ما يَدَّعِي، ولكنَّه كان أكثرَ مِنَّا إصرارًا على صِدْق ما يَدَّعِي.

طَلَبْنَا مِنْه هُويَّتَه أو ما يُثْبتها؛ فقال بأنَّه فَقَدَها، ولا يُوْجَد لديْهِ أيُّ إثباتِ هُويَّة، وهذا مَا لَمَسْنَاه حقًّا عِنْدَما أخْرَجَ لنا مَحْفظته؛ فلا بطاقة شخصيَّة ولا رُخصة قيادة ولا بطاقة عَمَل؛ مِمَّا زَادنَا يقينًا بأنَّ وَرَاء الرَّجل عُلومًا وأخبارًا، وجَعَلَنا نتمسَّك أكْثَر بمَعْرفةِ حقيقةِ أمْرهِ؛ إيمانًا مِنَّا بأنَّ تَكْرَار وُجُوْد شخصٍ غريبٍ مِن غَيْر هُويَّة ولا هدف داخل قريةٍ يبعثُ على التخوُّفِ والحَذَرِ والشُّكوكِ والشُّبهات، وقد يكونُ مَصْدَر قلقٍ.

أكَّدْنَا لهُ مَرَّة أخرى بأنَّ الصِّدقَ منجاة، وأنَّه مَا لَمْ يُوضِّح لَنَا حقيقةَ أمْرِه، فَلَنْ نستطيعَ مُسَاعدتِه فِي شَيء، وأوْضَحْنَا له بأنَّ المرءَ فِي الحَيَاةِ قد يُعَانِي مِن مُشكلات أسريَّة أو اجتماعيَّة أو نفسيَّة أو صحيَّة أو اقتصاديَّة، بل لا يَكَاد يخلُو أحدٌ مِن مُشكلات وهُمُوم فِي هذِه الحَيَاة الدُّنيا، وأنَّنا على استعدادٍ أنْ نقفَ بجانِبِهِ مَا استطعْنَا إلى ذلك، إنْ كانَ قُد ابتُلِي بشيء مِن نَكَدِ الدُّنيا. بَيْد أنَّه أصَرَّ على أنَّ أمْرَه طبيعي، وأنَّه مُتَّجِه إلى مَسْقط حيثُ أَحَد أقاربه، وقد كَانَ أخْبَرَنَا فِي اللقاء الأوَّل بأنَّ أهْلَه فِي مُحَافظةٍ أُخرى، ولمَّا رَأيْنَا مِنْه هذا الإصرارَ قُلنا له: "سُنقدِّم إليك إحدى خِدْمَتيْن فاخترْ أيهما شِئْت: إمَّا أنْ نُوْصِلك إلى مَنْزل أهلِك بمسقط، وإمَّا أنْ نُوْصِلك مركزَ الشُّرطة لأجلِ أنْ يُسَاعدُوْك فِي التَّعجيلِ لاستخراجِ هُويَّة بالتَّواصل مَعَ مركزِ الأحْوَال المدنيَّة؛ إِذْ مِن الخُطُوْرة بمكانٍ عليك أنْ تتجوَّل مِن غَيْر هُويَّة؛ فهَذا ليْسَ فِي صالحك نهائيًّا وإنْ كُنتَ في بَلَدِك". لكنَّه رَفَضَ بشدَّة هذيْن الأمريْن، وتضايق كثيرًا، وأوْضَح لنا أنَّنا لا نُريدُ لَهَ خيرًا إنْ كُنَّا سَنَأخذُه إلى مَرْكَز الشُّرطة، وأنَّه لا يجُوْز ولا يحِقُّ لَنَا الحَدِيثُ مَعَه بهَذِه الطَّريقة رَغْم أنَّ الحَدِيثَ كَانَ يدُوْر حَوْل نُصْحِه والعَرْض بمُسَاعَدَتِه، وطلبَ مِنَّا أنْ يُغَادِرَ السيَّارة، ولكنَّنا كُنَّا أشدَّ رَفْضًا مِنْه وألزمناهُ باختيارِ أحَد الأمْرَيْن؛ فَقَد صَارَحْنَاه بَعْد شِدَّة رَفْضِه بأنَّ وُجُوْدَه في منطقتنا بجوار مكانِ سكْنَانا لغَيْر هدفٍ، ومن غَيْر هُويَّة، لا يبعث على الرَّاحة والاطمئنان، وأنَّه ما دام رافضًا أنْ نُساعده بما نستطيع، فلا بدَّ أنْ نُلزمَ أنفسنا ببيانِ حقيْقَتهِ لمن يهمُّه اﻷمر.

وبَعْد أخذٍ ورَدٍّ، وافقَ أنْ نُوْصِله إلى مركزِ الشُّرطة، وقد هَدَّدَنَا حِيْنَها بأنَّه سيرفع قضيَّة ضِدَّنا، وأنَّ الأمورَ ستنعكس سلبًا علينا وليستْ فِي صَالِحنا، وأكَّدْنا لَهُ حِيْنَها أنَّ "إيصالَك إلى مَرْكَز الشُّرطة لَيْس لرفعِ قضيَّة ضدَّك، وإنَّما لأجل مُساعدتك، والوقوفِ بجَانبك، ومعرفةِ حقيقة أمْرِك فهُم حُمَاة الحقِّ وحُرَّاس المبادئ، وهم العَيْن السَّاهرة على أمْنِ الوَطَن واستقراره، وهم الأوْلَى والمسؤولون عن هذه القضايا، ولَيْس خطأ مَا قُمنا بِهِ ونقومُ بِهِ، ولا مِن فراغ أو مِن تقصُّد في شَخْصِك، ورسالة قيادة الشُّرطة في مُحَافظتنا الدَّاخلية تنصُّ على المحافظة على الأمن والآداب وحماية الأرْوَاح والأمَوْال والأعْرَاض، وكفالة الطَّمأنينة والسَّكينة في كافة المجالات، والعمل على مَنْع ارتكابِ الجَرَائم وضبط ما يقع منها، واتخاذ إجراءات التَّحرِّي وجمع الاستدلالات، والقيام بأيَّة واجبات تنصُّ عليها القوانين والمراسيم النَّافذة، وكل ما تفرضه عليها القوانين واللوائح مِن واجبات أخرى. كما أنَّ رُؤية القيادة تنصُّ على أنْ تكون مُحافظة الدَّاخلية واحة أمن وأمان لكلِّ مُواطن ومُقيم وزائر بعَوْن الله، ومِن ضِمْن أهدافها: دعم وتعزيز الشَّراكة المجتمعية بَيْن شرطة المحافظة وجميع أفراد المجتمع ومؤسساته؛ مِن أجل مجتمع آمن تسوده الرَّفاهية والاستقرار.

وعليه؛ فإنَّ ما قُمْنَا، ونقومُ به، تجاهك لا يَتَعارض مع رسالة القيادة ورؤيتها وأهدافها، بل إنَّه يتطابق مع تلك الغَايَات السَّليمة؛ مِن أجلِ كفالة الطَّمأنينة والسَّكينة، وشراكة جميع أفراد المجتمع؛ لأجل مُجتمع تسوده الرَّفاهية والاستقرار.

وللحديثِ بقيَّة في العَدَد المقبل، بإذن لله تعالى.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك