في معنى أن تكون إنسانيًّا!

ليلى البلوشي

فوجئ ركابُ طائرة من الدرجة الاقتصادية زهيدة الثمن بالنجمة أنجلينا جوليو وزوجها براد بيت برفقة أولادهما، وهم يصعدون على متن الطائرة، بينما يحاول الركاب المحتشدون الوصول لأماكنهم.. وبعد أن انتشرت العائلة في أماكنها المتفرقة، سأل أحد الفضوليين النجمة أنجلينا جولي: لماذا تركبين هذه الدرجة الرخيصة؟ فأجابت: بالفرق بين جلوسي في الدرجة الاقتصادية وأن أجلس في الدرجة الأولى، أستطيع توفير مبلغ من المال، به نستطيع أن نوفِّر خمسين خيمة للاجئين ينامون في العراء ولا يملكون شيئا.

العبارة المفعمة بالحكمة التي انسابت بسلاسة من الممثلة الهوليوودية الشهيرة أنجلينا جولي لم تأت من باب التباهي أو ادعاء التواضع، لم تأت سوى بعد خبرة مريرة وتجوال حقيقي في مخيمات اللاجئين السوريين والصوماليين والأفغانيين وكمبوديين...وغيرهم؛ أولئك الذين شردتهم الحرب، لقد أدركت هذه الممثلة "الكافرة" -كما ينعتها أدعياء وتجار الدين- معنى أن توفر مبلغا من المال لعائلة متشردة، لأم لا تملك قوتَ يومها، لأب عاجز، لطفل وحيد، وهي الثرية والتي لديها من القصور والمنتجعات والجزر في معظم أنحاء العالم، معنى أن يشعر الثري بالمعدم، معنى أن يشعر غير المسلم بالمسلم، معنى أن يشعر الأجنبي بالعربي، كل هذه المعاني ليس من السهل أن يستوعبها ثري، مسلم، عربي، يتمتع بالجشع...لن يستوعبها الثري الذي سلب أموال المعدمين في وطنه وأصبح فاحش الثراء على حساب قوتهم وحقوقهم المسلوبة، لن يستوعبها من يملك كل شيء في حياته اليومية ويصحو على مائدة متنوعة من ألذ خيارات الأرض وينام على تخمة، لن يستوعبها كل من يرى العالم من شرفته الفخمة التي تطل على أبهّة قصور غيره، لن يستوعبها كل من أسقط معنى الإنسانية في تلافيف روحه!

كثيرٌ من البرامج الترفيهية التي تمَّ عرضها على الشاشة في شهر رمضان الفضيل، ولعل من أشهرها برنامج "رامز واكل الجو"؛ حيث ذكرت قناة العربية الإخبارية أن ميزانية البرنامج بلغت ملايين الدولارات، وذكرت تقارير صحفية أخرى أنَّ أجرة الضيف وحدها بلغت حوالي نصف مليون دولار، وتتضمن التكاليف أيضا إقامة الضيف ثلاثة أيام في أحد فنادق دبي وتذكرة الطائرة ذهابا وإيابا، إضافة إلى أجرة الطائرة التي تنفذ فيها المقالب، وتبلغ 20 ألف دولار يوميًّا!

السؤال الذي يُصدِّر نفسه الآن بعد عرض الميزانية الضخمة: ما الذي يجنيه المشاهد من هذا البرنامج وما على شاكلته؟

ما هي المتعة في استعراض صراخ الآخرين أو تخويفهم -هذا على افتراض إذا كان برنامج مقالب حقيقيًّا، وليس تمثيلًا بالاتفاق مع ممثلين اعتادوا على حرفة التمثيل وصياغة المشاهد وفق تصورات المتابع لإضفاء التأثير؟

مَنْ الرابح الكسبان الحقيقي وراء عرض مثل هذه البرامج سوى مقدمها وطاقم العمل والضيوف الممثلين المشاركين، فكل واحد منهم يستلم مستحقاته من آلاف الدولارات؟!

كم واحد من طاقم البرنامج أو المشاركين فيه فكر أنه يمكن لحلقة واحدة -حلقة واحدة فحسب- بكامل ميزانيتها الباهظة أن تنقذ عائلة، عائلتين، ثلاثا، بل عشرة من المشردين اللاجئين على أصقاع العالم العربي وحدوده، يمكن لحلقة واحدة فحسب أن تبني آلاف الآبار في قرى نائية يقطع أهلها مئات الأميال للحصول على الماء وعبء الحمل الثقيل نفسه بقطع الأميال نفسها في طريق العودة، يمكن لحلقة واحدة فحسب أن تنبي أكثر من مدرسة لملايين من الأطفال بلا تعليم، أن توّفر مستشفيات وأجهزة وأدوية لمرضى السرطان والفشل الكلوي، يمكن لحلقة واحدة فحسب أن تساهم في إنقاذ حياة مئات الأطفال يعانون من سوء التغذية في أصقاع العالم العربي المنكوب حيث الجوع ولا شيء سوى الجوع، يمكن لحلقة واحدة أن تزرع مئات الأشجار الصحية لبيئة أنقى من شوائب المصانع والعوادم وسائل المواصلات الملوّثة!

هنا.. يكمُن المعنى الإنساني بين أن تسخَّر الأموال في إنتاج برامج يكون المشاهد هو الكاسب الرئيسي من عرضها، برامج تشرع له ولغيره آفاقا نحو عمل مثمر، نحو عمل إنساني، نحو الإحساس بالآخرين والتخفيف من آلامهم ومعاناتهم في ظل عالم عربي واقع في معترك الحروب والتشرد والعنف والجوع والمرض.. وبين برامج لا غرض لها سوى إثارة مشاعر سلبية، تفيض بالعنف، وتخلو من كل معنى إنساني نبيل، يكون الغرض من ورائها كسب ملايين الدولارات على حساب مشاهدين لا يملك معظمهم كهرباء لمشاهدتها!

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك