عندما يتلقفنا الشيطان


د. سعيدة بنت خاطر الفارسي


تقول الأسطورة: "عندما قسَّم الله الأرزاق، لم يقتنع أحد برزقه، لكنه عندما قسَّم العقول كلٌّ منا شكر، وقال: الحمد لله عقلي يكفيني وزيادة، حتى المجنون لو سألته لقال عقلي لا يُماثله عقل".

علما بأنَّ الله -العادل في قِسْمته- قسَّم الأرزاق والنعم بالتساوي، كما قال الشيخ الشعرواي: "إنَّ منح المليونير أوناسيس مالا فقد منح غيره صحة، ومنح الآخر جمالا، وغيره علما وثقافة أو إبداعا، أو شخصية محببة وقبولا، أو أولادا بررة؛ فأرزاق الله ليست مالا فقط كما يحددها البعض". وهؤلاء يَرَوْن أنَّ المال فقط هو معيار النجاح؛ فبمقدار ما يدخل جيبك من مال يكون نجاحك، ومن ثمَّ يكون لدى البعض لهاث خلف المادة فقط، وهو لهاث أشبه بالسعار يُدخل صاحبه في أحبولة إبليس والعياذ بالله؛ فينسى بني آدم أنه خُلق لتعمير الكون، لا لكي يسعى في الأرض فسادا ويُهلك الحرث والنسل، ونسي أو تناسى أنَّ الحياة في الأصل أخذ وعطاء، لكن الشيطان يعظ أصحابه؛ فمن منكم حضر موعظة للشيطان؟

تتَّصلُ بالمنسِّقة التي أغرتها بدخول دورة في التنمية البشرية، تسألها: "رجاءً، أريدُ كلَّ أوراقي التي كتبتها وقدمتها للأستاذ المدرب". المنسقة تسأل مُتعجِّبة: "أيَّة أوراق عزيزتي؟! ليس معي أوراق لك أو لغيرك".

تبكِي المتصلة على الهاتف، وتتشنَّج: "كيف ليست لديك أوراق وأنتِ مَنْ أغرانا بالدخول في هذه الدورة؟!"، ترد المنسقة: "هذا صحيح، لكن دوري توقف عند دخولكم وتسجيل أرقام تليفوناتكم وتحويلها للمدرب، وأنتظر تعليمات الأستاذ لكن لم تصلني منه أية تعليمات بعد". الصوت الذي على الهاتف يترجَّى بنبرة تخنقه العبرات: "لقد ورطيِّنا مع هذا المدرب". ودار بين الاثنتين هذا الحوار.. المنسقة: "كيف ورَّطتك، والجميع يمتدحه، يمتدحه حقا؟!". هي: "هل تعرفين ماذا يطلب مني أستاذكم؟ وأنا امرأة متزوجة ولدي أطفال". المنسقة: "لا يُمكن، يبدو للجميع أنه دمث الخلق". ترد: "هذا ظاهره، أما الباطن فهو الشيطان الرجيم". وتكمل: "رجاءً، ساعديني أستعيد أوراقي". المنسقة: "ماذا بها أوراقك حتى يهددك بها؟!" هي: "أوراقي بها كل أسراري التي لا يعرفها أحد، ويهددني أن ينشرها للناس لو لم أستجب له". المنسقة: "ولماذا أعطيتيه أسرارك". هي: "هو أعطاني أوراقا، وطلب مني أن أكتب كلَّ ما يضايقني من مشكلات، وقال هي التي تعيق نجاحي وتقف دون تحقيق أحلامي، وطلب مني أن أكتب كلَّ شيء بصراحة تامة؛ لأنَّ ما سأكتبه لن يطلع عليه أحد سواه، حتى يستطيع العلاج بنجاح، ثم بعد القراءة سيعيد لي جميع أوراقي، وفعلت، الآن يهددني بما كتبتُ بيدي". تندهش المنسقة ولا ترد، لكنها تتلقى اتصالا آخر ينساب إلى أذنيها صَوْت شاب: "لماذا أخذتم نقودي أنا وصديقي، ولم تستدعوني للدورة؟!!". المنسقة: "كيف لم يستدعوك للدورة، والدورة بدأت من زماااان". هو: "ونحن، لماذا لم تتصلوا بنا؟". هي: "أنا أعتقدت أنكم أخذتم الدورة، عموما أمهلوني للغد لأرى السبب". يُشاغب الصداع رأسها؛ فهي مؤخرا كل يوم تتلقى مكالمة عجيبة، والأستاذ في رأيها ورأي الناس لا يوجد له مثيل، فما الذي يحدث؟!.. تتصل بالأستاذ تسأله: "لماذا لم يستدعِ فلانا وفلانا؟! يأتيها الرد: "هؤلاء مزعجون". هي: "طيب، وفلان وأخوه، ووو...". هو: "رجاءً، وبصراحة، لا تقبلي أسماءَ ذكور، أنا اقتصرت دوراتي على الإناث فقط". هي: للإناث فقط؟!! طيب، أنا مُعظم من جمعت أسماءهم رجال". هو: "لا أريدهم أحذفيهم". هي: "نعم، سأحذف.. لكنهم يطالبون باسترداد نقودهم". هو: "ليس لديهم ما يُثبت أننا استلمنا منهم شيئا". هي: "أستاذ، أستاذ...". لا تتلقَّى ردًّا.

مكالمة ثالثة: "مرحبا، أريد فلانة". المنسقة: "لا يوجد معنا فلانة". الصوت الآخر: "بل يوجد، وقالت إنها مُنسقة الأستاذ". هي: "أنا المنسقة، ولا أعرف أحدا بهذا الاسم". الصوت الآخر: "عزيزتي، أنا اتصلتْ بي فلانة الفلانية، وهذا اسمها وهذا رقمها، وهي على تواصل يومي معي ومع الأستاذ". تتلعثم المنسقة: "أنا لا أعرف أنه لديه منسقة أخرى غيري". الصوت: "بل لديه، وهي التي توضِّح لنا أين نلتقي بالأستاذ كل مرة". المنسقة: "وأين تلتقون؟". الصوت: "نلتقى أولا في المقاهي الكبيرة المشهورة في المكان الفلاني، وبعد لقاء المقاهي يطلب منا أن نذهب إليه في مكتبه؟". هي: "نعم، أعرف مكتبه في الشركة". الصوت: "لا، هذا مكتب في العمارة الفلانية، الشقة رقم..". المنسقة: "ماذا تقولين؟!!". الصوت الآخر: "عجيبة، ألا تعرفين كل هذا؟" المنسقة: "نعم، أعرف ولكن...!". الصوت: "لكن ماذا؟ من هي المنسقة التي اتصلتْ بي وأخذتْ مني كذا وكذا وكذا". المنسقة: "حاضر، سأسأل الأستاذ".

لم تسأل الأستاذ، ودخلتْ في حوار مع النفس: ما هذا؟ هل يعقل أن يكون الأستاذ هكذا؟ عندنا بوجه وله عشرة أوجه أخرى!! إذن، أين النصائح، ودورات كيف تكون ناجحا، وكيف تترقى وظيفيا، وكيف تنجح مع أسرتك...كيف، وكيف، وكيف؟!!!! لا..لا...هذا مستحيل، ولكن كيف مستحيل وسَيْل المكالمات العجيبة لا ينقطع؟! ثم لماذا مستحيل، وهو قد كذب عليَّ أنا أيضا، ألم يقل لي نسبة مؤوية فوق الراتب لكل حالة تدفع مصاريف الدورة، أين هي هذا النسبة؟ وأنا قاربت على العام ونصف العام معه،وكلما سألته: أين النسبة أستاذ؟ يقول: تتجمع لك وتصرف كل ستة أشهر، وهذه الستة أشهر والسنة قد مضتْ، ولا بيسة واحدة صرفت لك. فإذا كذب معي أنا، ألن يكذب على هؤلاء الشباب الصغار المتعطشين للنجاح والشهرة؟!

الآن.. أعتقد أنَّ الصورة واضحة بما فيه الكفاية؛ لندرك أنَّ الرجل بدلا من أن يمارس التنمية البشرية، هو يسعى للتدمير البشري، ويستغل جهل الفتيات الصغيرات الجميلات ليبتزهن ربما مالا، ربما جهدا، ربما جسدا، وربما وربما.. فإنَّ للشيطان وجوها عديدة، وطبعا في سبيل غاياته المشبوهة، هو يدمِّر كثيرًا من الأنفس البريئة، ويحطِّم كثيرًا من الأسر المترابطة، لا شكَّ أنَّ الشيطان يعيش بيننا، لكن أنْ يعمل بكل هذه الحيل، وبكل هذه الوقاحة، وبكل هذه الثقة في غفلة من الجميع، فهو أمر ينبغي أن يتصدَّى له المجتمع، وألا يستحي أي شاب من تقديم شكوى ضد هذا المتلاعب بهم لدى الادعاء العام، وكذلك الفتيات عليهن مصارحة الأهل، وإلا لتورطن أكثر وأكثر مع الشيطان وجنوده. وعلى المنسقة أن تسعى لأخذ حقها منه، والوقوف إلى جانب المتورطين معه؛ لأنها هي أيضا تعدُّ متورطة دون علم منها كما يبدو، لكنها هي من سوَّقتْ له واستدعتْ الشباب والشابات، ليس بغريب أن يكون الأستاذ المعالج وحده مريضا، بل ويعاني من الانفصام، ويحمل وجهيْن متضاديْن لشخصيتيْن متضادتيْن؛ لهذا فهو شيطان وملاك في الوقت نفسه، وهو يدعو للمُثل العليا في دوراته، وتتدنَّى سلوكياته الخبيثة لما تحت الصفر خارجها. إنه الجنون المرضي!

وكان أقصر طريق للإعلان هو وسائل التواصل المختلفة، دون دفع نقود أو دون أي جهد سوى الاستعانة بمكتب تصميم يُصمِّم له شكل الإعلان ويرفقه بالإغراءات المكتوبة، وحتى هذا المكتب ينوي رفع دعوى لاسترداد حقه الذي يرفض الأستاذ سداده.

والسؤال: أين دور الجهات الرسمية المسؤولة عن منح هذا وأمثاله تصاريح لممارسة النصب على الناس، وهو كما تقول المنسقة لديه شهادات ولديه تصريح رسمي؟! صحيح أننا لم نتأكد من تلك الشهادات، ولا من تلك الموافقات الرسمية التي يُعلقها المحتال -وما أسهل صك الصكوك وتزوير المستندات والأختام في عصرنا، المفتوحة شبابيكه على الشياطين في كل اتجاه!!

وأعتقد أنه آن للحكومة أن تحصر هؤلاء، وأن تتأكد من صلاحيتهم الإنسانية قبل صلاحية شهاداتهم وتصاريحهم، ونرجو أيضا أنْ تتبعهم ليمارسوا هذه المهنة تحت مظلة وزارة ما، أو جهة حكومية مسؤولة؛ فالخطر لا يكمُن في المثقفين وصالوناتهم الثقافية التي تنشر الوعي والإبداع، وتشارك في إثراء المشهد الثقافي، وتعمل على التوازن بين الجهات الثقافية الرسمية، وتلك المجتهدة في تقديم وجبة مختلفة المذاق، بمقدار ما يكمُن في أمثال هؤلاء المدَّعين المتحايلين، وإن كنت ألتمس العذر في بعض الأوجه لتخوفات الأمن تجاه الفوضى غير الخلاقة لنشأة بعض الصالونات والملتقيات. وعلى شاباتنا أن يعين ويعرفن أنه ليس كل ما يلمع ذهبا، وأن يتكتمن على أسرارهن وأسرار أسرهن، خاصة مع الغرباء الذين لم يسبق لهن التعرف عليهم. ودائما ليتذكرن مقولة الفيلسوف الفرنسي سارتر "الجحيم هو الآخرون"؛ إذ مِنْ الخطأ جدًّا أن ألجأ في الشكوى للغريب، وقد أنعم الله عليَّ بأسرة تحبني وبزوج قد لا يشعرها بهذا الحب كما تتمنى.. لكنه لو لم يكن لها الكثير داخله، لما اختارها من بين مئات الفتيات وربط اسمه واسم أولاده باسمها على الدوام!!

أمَّا آخر كلمة؛ فهي لأخينا المستمتع بدهائه وذكائه، المؤذي للناس: تذكر أنَّ الله يُمهل ولا يُهمِل، وكثير ممن أسأت لهم لن يتركوك تعيث في الأرض لتهنأ بما كسبته، إننا نشير إليك اليوم بمقال صامت سيصلك، دون ذكر لاسمك وبياناتك، لكننا قد نُدلي بأفعالك للجهات المسؤولة.. فهل ستكتفي بما وصلت إليه، وتعقد طلاقا بائنا بينك وبين حزب الشيطان؟! صدقا.... أرجو ذلك.

تعليق عبر الفيس بوك