التقاطات

أمل عامر السعيدية

أحب مشاهدة الأفلام، لذلك اتجهت ومنذ وقت مبكر في حياتي لمتابعتها، خصوصاً السينما الشعرية، وأحسب أنني تأثرت كثيراً بسينما انغمار برغمان وكيشلوفسكي أكثر من غيرهما. تابعت دراستي الجامعية في هذا التخصص إلى أن وجدت ضالتي مع المخرج الذي أحببت أعماله بطريقة أعجز عن وصفها؛ المخرج اليوناني ثيو أنجولوبولس. أول فيلم شاهدته لأنجولوبولس هو "المرج الباكي" وقصة الفيلم تدور حول عائلة يونانية تنزح من روسيا في العام ١٩١٩ بعد الثورة البلشفيّة. ويحرك أحداث القصة الفتاة التي فقدت أبويها : "ايليني" وهذا الاسم يعني اليونان وفق الأصل اللغوي للكلمة الإغريقية ونشهد معاً أحداث الحرب الأهلية والظروف التي عانت منها العائلات اليونانية آنذاك. ما يهمني قوله الآن هو ذلك الفراغ الذي يميز أفلام انجولوبولس، والذي يدعوك لتقمص حالة من التفاعل والشعور لا يستطيع أي فن آخر أن يحققها بنفس الطريقة، ان ذلك الفراغ يذكرني بكتابة للفلسطيني حسين البرغوثي كان قد عنونها بـ "الفراغ الذي رأى التفاصيل"، الفراغ الذي يحيط المكان، أشبه بفسحة صغيرة، باستراحة يجد المرء فيها نفسه أمام ما يعكس طبيعة هذه الروح التي ندعي القبض عليها داخل أجسادنا لكنها في الحقيقة متضخمة جداً وتجد نفسها شذراً في أماكن عديدة. وحول هذا اللقاء يكتب حسين عن حبيبته: "صرت مصاباً بانفصام العينين، بدل انفصام الشخصية، فأراني بعينيها، وأراها بعينيّ، وأرى نفسي وهي تراها بعيني وتراني بعينيها، لعنة الحب المطوق بالمرايا". نعم إن سينما انجولوبولس تصنع ذلك المدى المليء بالمرايا حتى آخره، نراوح فيه ونجري ولكنه في نهاية المطاف واسع، ويذهب بنا إلى البعيد.

********

كتاب (أعراس) لألبير كامو واحد من تلك الكتب التي تنقذ الإنسان. قبل سنوات قرأت رأي شوبنهاور في الانتحار، وكيف أنّ إرادة الحياة تستمر على أي حال، وإنني لا أنتصر لا لنفسي ولا لأي أحد إن أنا أقدمت على خسارة حياتي. كان صادماً أن يفكر شوبنهاور الفيلسوف الذي عرف ببؤسه بهذه الطريقة. كامو قرأت له أول الأمر روايته الغريب، تلك التي تجعلك تفهم على نحو دقيق معنى ان تكون هذه الحياة ثقيلة، إلا أن نهايتها التي تفهم فيها من هو كامو جيداً بعثت في قلبي شيئاً من العزاء، عندما دخلت أشعة الشمس على السجين، وحاول الإمساك بخيوطها، مؤمناً ومنفعلاً بها، وهو الذي مرّ غريبا أمام موت والدته، جريمة القتل التي ارتكبها، القس الذي جاء لمساعدته على التوبة في السجن. بعدها قرأت أسطورة سيزيف، رفض كامو خطاب اللاجدوى الذي نعرف جميعاً أن سارتر سوق له أكثر من أي فيلسوف آخر هذا حسبما اعرف على الأقل، لقد ظن كامو أنه يكفينا أن نصدق لا معقولية هذه الحياة حتى نتمكن من تجاوزها. وعلينا رغم ثقل الصخرة وانسكابها بعكس الجاذبية ان نتخيل سيزيف سعيداً. إنما الصخرة هي الحياة التي تصر على أن تكون منهكة لكنه بحزمه أعني سيزيف يدفعها بما هي عليه من ثقل إلى أعلى التلة!.. قرأت قبل سنة تقريباً مذكرات كامو الجزء الأول، اتذكر جيداً شعوري وأنا أردد كلماته التي تعني: أن زهرة تنبثق في وسط الغبار الذهبي لهي كافية لتحمل هذه الحياة. في هذا الكتاب يحدثنا كامو عن السعادة، المتعة فلا عار على الإنسان أن يكون سعيدا. "أحمق من يخاف المتعة". يتحدث عن الأرض وأديم البحر، والجسد، والجزائر، والعرق، والريف، وبساطة الناس. فلا يعني رفضنا الحياة، التخلي عنها. إننا ببساطة نبتدع ميتات واعية. ففي فقدان الأمل قوة، وفي هذا الحاضر أشياء تغني عن التفكير عمن يقف خلفه. عندما يزور الجزائر هو لا يبحث عن الدروس، وعندما ذهب رامبو لعدن لم يكن زاهداً من أجل الكتابة، لكن هذا كله جاء من الإيمان بالشيء كما هو. كامو يعلمنا تقفي أثر البراءة والتعايش مع الناس... وفي النهاية عندما تعود إلى حيث اتيت تتحق لك عزلة لكنّها ليست كأي عزلة، إنّها عزلة الارتواء. قرأت هذا الكتاب على فترات متقطعة عند أحد شواطئ مسقط، من الرائع أن تقدم لنفسك دعوة لقضاء وقت تستعيد فيه ثقتك بهذه الحياة وبنفسك، أن تكون سعيداً، شغوفاً وممتناً. يمكنك أن تشاهد الأفلام، تقرأ، ترسم، تغني، تدعو أمك لعشاء في الخارج، تقدم إلى الإنسان الذي تحبه شيئاً ما يبحث عنه. هذه البهجة ضرورية.

amalalsaeedi11312@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك