"في انتظار البرابرة"

أمل عامر السعيديّة

تلجأ الأنظمة السياسية إلى اختراع عدو خارجي، بغيّة إلهاء الشعوب عن المشاكل الداخليّة. فبينما ينشغل الناس بتجنب الخطر الخارجي، يسرق الملوك وأتباعهم ثروات الدولة وخيراتها. ليس هذا فحسب، فإنّ أي محاولة إصلاح تقوم بها النخب، لا تعدو كونها جزءاً من المؤامرة أو الفتنة التي تعمل لصالح هذا العدو المبتكر. رواية "في انتظار البرابرة" لـ ج. م. كويتزي الروائي الجنوب إفريقي، والمقتبسة عن قصيدة لقسطنطين كفافي والتي كتبت عام 1898 تناولت هذا الموضوع. ولنبدأ أولاً بسياقه المعاني التي أوردها الشاعر كفافي في قصيدته. إنّ الجميع بلا استثناء، الملك وشعبه، ينتظرون البرابرة (الأعداء)، كل فعل تقوم به الدولة، يعبّر عن جاهزيّتها لمواجهتهم حتى تقلد الملوك والقناصل بالذهب. الجنود على الحدود لأنّ البرابرة يقتربون أيضاً، وينهي الشاعر قصيدته بقوله :

"... لم يأتِ البرابرة

لأن أناساً قدموا من الحدود

وقالوا أنْ ليس ثمة برابرة.

والآن... ماذا نفعل بدون برابرة؟

لقد كان هؤلاء حلا من الحلول."

هذا ما حدث للقاضي في منطقة حدودية هادئة، واحة لا يمكنك أن تزورها دون أن تولع بالحياة فيها، في المكان الذي تربي فيه النساء التوت والمشمش، حيث يزرع الرجال النباتات المسالمة، وتطبخ النساء الثمار العذبة، وبعد أن ترسل الدولة محققاً خبيراً، يجد القاضي نفسه متورطاً في قضية تمس أمن البلدة، بعد أن كشفت علاقته بالبرابرة، الذي أحب منهم فتاةً أعادت الحياة فيه. سُجِنَ القاضي وتعرض للتعذيب. وعلى الرغم من قسوة الجلاد، إلا أنه أصر على أن إختيار عدوه حق من حقوقه. عُلقَ القاضي الذي كان محترماً منذ أيام قلائل في غصن شجرة عارياً وإنهالت عليه الهروات بالضرب بإسم الإمبراطورية التي تسعى لتجنب خطر البرابرة الأعداء. وفي يوم من الأيام بينما حصدت جيوش البلدة أربعة من البرابرة، وضعتهم في ساحة المدينة، وأجبرتهم على الركوع، وتلقوا الضرب من الجنود والسكان، ليس هذا فحسب، تم إستدراج الأطفال لإشراكهم في هذه الجريمة التي لا مبرر لها، عدا رغبة رجال السلطة في وضع هؤلاء الغلبة المساكين في مكانة العدو، وإشراك الطفل له دلالاته هنا، فالأنظمة تهتم بتوريث أفكارها للأجيال كلها، تمنى القاضي لو أنه تمكن من الدخول الى زنزانته وإقفال المتاريس، حتى لا يصبح جزءاً من هذا العرس الوطني المتعطش للدماء. لكنه تأمل في ذات الحين قائلاً "ربما كنتُ أظلم سكان بلدتي، ربما هناك ربات بيوت يقشرن الفاصولياء في مطابخهن، يحكين الحكايا ليشغلن أطفالهن القلقين. ربما هناك مزارعون ما يزالون يتجولون بهدوء لإصلاح مصارف المياه. إذا ما وجد رفاق مثل هؤلاء، يا لحسرتي أنّي لا أعرفهم، وما بات أكثر أهمية لي هو ألا أتلوّث بفظاعة ما سوف يحدث، وألا أسمم نفسي بحقدٍ عاجز على مرتكبي هذه الفظاعة، يجب أن يعرف النّاس في المستقبل، أنّه في أبعد مخفر من إمبراطورية النور، هناك من عاش ولم يكن بربرياً في قلبه". بعد هذا كله، يهرب الضابط المفوض على البلدة بعد حملة عسكرية لتصفية البرابرة، آخذاً معه كل الجياد ومؤونة البلدة. يأتي الكولونيل "جول" ليبحث بدوره عن بقية الثروة، ويسأله القاضي المحطم جراء ما حصل له ولبلدته: ماذا حدث لكم؟ وهل واجهتهم البرابرة حتى نفقد كل شيء، كيف تمكن هؤلاء البسطاء بدون أسلحة من هزيمتكم؟ وقد جاء الرد صادمًا، لم يواجه الجنود البرابرة أبداً، ظلّوا يتبعونهم حتى وصلوا إلى الصحراء، وأهلكتهم الطبيعة هناك.

آمن القاضي بأنّ الألم هو الحقيقة الوحيدة حتى أولئك الذين عذبوه لا يستطيع أن ينظر لهم من موقف أخلاقي استعلائي بقدر ما هو قابل للتبرير. كل شيء آخر عدا الألم قابل للشك. فهل يصعب علينا أن نشك في الأعداء الذين نصنعهم على المستوى الخاص كأفراد؟ والأعداء الذين تختارهم لنا السلطات بشتى أنواعها بشكل عام؟

في النهاية أرغب في قول كلمة بعيدة عن موضوع المقال بعض الشيء، هذه الرواية من أجمل ما قرأت، وأزكّي ترجمة: صخر الحاج حسين الصادرة عن دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع. القاضي يقدم مونولوجاً فائقاً عن الواقع المأساوي الذي يعايشه. إنها تسير ببطء مثل هذه الحياة في إيقاعها الداخلي، نحو الحق، الحق وحده، ذلك الذي ستكتشفه عندما ترى القاضي واقفاً أمام رجل الثلج في آخر صفحة من هذه الرواية.

Amalalsaeedi11312@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك