الإنسان العربي قتل نفسه

حميد بن مسلم السعيدي

تعتبر الثورة الفرنسية روح الثورات السياسية التي قامت ضد الحكام والأنظمة الحاكمة، وانقسمت الآراء حولها إلى قسمين فهناك من يؤيد الثورة الفرنسية والنتائج التي حققتها، ويصفها غوستاف لوبون في كتابة روح الثورات "أن الثمرة التي اقتطفت بعد القيام بكثير من أعمال التخريب لابد من نيلها في نهاية الأمر مع سير الحضارة بلا عناء"، وفريق يدين الثورة ويعتبرها من الأعمال التي أحدث مرحلة من التخريب والإيذاء لفرنسا، ويصف تاين الثورة " إن الشعب لما سار بغريزته وحرر من الزواجر الاجتماعية عاد إلى دور الهمجية الأولى" ولا يمكن اليوم الحكم على الثورة الفرنسية خاصة أنّ هناك العديد من الاستفسارات التي لم تجد لها أجوبة لإخفاء العديد من الوثائق عن تلك المرحلة، ومع ذلك فقد تحققت العديد من الإنجازات والتي تمثلت في المساواة في الحقوق والمواطنة، والحرية، وإصدار إعلان حقوق الإنسان، ومحو الأفكار السائدة عن التقاليد والتسلسل الهرمي والطبقة الأرستقراطيةوالسلطتين الملكية والدينية، وفي ذات الوقت فقد ارتكبت في مرحلتها العديد من الجرائم ضد الإنسانية وحدثت أبشع الأحداث والتي وصفت بالهمجية، فهي أخذت صورتين متناقضتين بين البحث عن العدالة والقيام بأعمال مناهضة لذلك.

والمطالبة بالحريات والعدالة هي حقوق يمتلكها الإنسان أين ما تواجد رغبة في تحقيق طموحاته وآماله، وأن يعيش حياة سعيدة، يسودها الأمن والاستقرار والمساواة والحرية، ولكن ماهي الأداة وما الأسلوب الانجح في تحقيق ذلك؟ وهل هو قادر على التحكم في ذاته بحيث يطالب بحقوقه وفقا لمنطق العدالة الذي يسعى له؟ أمّا أنّه يطبق قانون وعدالة من ذاته ويسعى إلى نشرها بغض النظر عما يحدث خلال تلك المرحلة تحت راية أن مطالبنا تساوي ما نضحي به اليوم! وأنه يمتلك الحق في القتل والتدمير والتفجير والسلب والنهب وتخريب الديار من أجل العدالة، فهل ما قام به من سلوكيات وأفعال كانت من منطلق العدالة؟ فكيف تطالب بالعدالة وأنت ما تقوم به يصطدم مع منطق العدالة؛ فأي فكر هذا وأي منطق جاهلي ذلك.

وقد شهدت المنطقة العربية في عام 2011م العديد من الثورات التي قامت ضد الأنظمة الحاكمة وطالبت بعملية التغيير والإصلاح، وشملت دولا عديدة بدءًا من تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، وتوجّهت لرفع المطالبة بالعدالة الاجتماعية، وتحقيق الحرية والديمقراطية، والمساواة، ومحاسبة السلطة الحاكمة، وكلها كانت مطالب عادلة في ضوء ما عاشه الإنسان العربي من مرحلة ضيقة سادها الفقر، والفساد، والتخلف، والجهل، وخير شاهد على ذلك هي مكانة الدول العربية على مختلف المجالات والتي لم تحقق فيها أي تطور أو تقدم على عكس ما يشهده شرق العالم وغربه من تسابق في التطور في مختلف المجالات خاصة الاقتصادية والتقنية، مما ينعكس إيجابيا على المستوى المعيشي لسكانها، في حين أنّ الدول العربية ما زالت في خلف الركب نظر لعدم اهتمامها بالموارد البشرية وسيادة الفساد بكافة أنواعه.

فنتيجة لذلك ثأرت الشعوب ضد السلطة الحاكمة، بعد أن وصلت لمرحلة لا يمكن الاستمرار بها، مطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية، بدائت باعتصامات سلميّة إلى أنّ تحولت إلى مرحلة من الصراع، ثم انطلقت إلى مرحلة اللاعودة والفوضى ضياع الأمن، وغياب كل أشكال العدالة من الشعب والسلطة، فسادة مرحلة من الضياع والانهيار، دون أن تحقق تلك المرحلة أي جوانب إيجابية في طريق الإصلاح.

في حين أن مطالبة الشعب بالعدالة الاجتماعية يجب أن تنطلق بذات الفكر والمبدأ والتنفيذ، لكن ما حدث مخالف لذلك، فهل ما حدث خلال الفترة الماضية من انهيار للحياة في تلك الدول يساوي البحث عن العدالة الاجتماعية التي يتغنوا بالبحث عنها؟، حيث سادة الصورة القاتمة ومستقبل يسوده الظلام خاصة مع بداية تشكل خريطة جديدة للشرق الأوسط يسودها الحكم الرجعي الإجرامي، فالإنسان العربي قام بقتل نفسه، بل واستعان بالآخرين على تنفيذ أجرامه، واستخدم كافة أدواته الإعلامية والمالية والسياسية والدينية في تنفيذ مخططاته الإجرامية تحت راية الشعوب لها الحق في البحث عن حرياتها، فهذه المرحلة توصف بأنها مرحلة الانهيار وليس مرحلة إعادة بناء؛ حيث لم يبق إلا الخراب وعباءة سوداء مملوءة بالحزن لم تجد من يلبسها، وديار أصبحت بدون أبواب غادرها سكانها إلى تحت الأرض، وفتيات تباع في سوق النخاسة بسعر الجاهلية، وأطفال يقادون إلى الموت، وشباب قطع رقباهم أسهل من قطع رقبة نملة تجري على الأرض، وظهور جماعات ودويلات تتمدد كتمدد النار في الهشيم، فمن يرى أنه هذه المرحلة كانت إيجابية فعليه أن يقارن اليوم بين فترة ما يسمى بالربيع العربي (الفشل العربي) وما قبله من سيادة للأمن والسلام والاستقرار في المنطقة العربية، وأن يسأل سكان تلك المناطق الموبوءة بشر الربيع عن حالهم ورأيهم فيما حدث، أن يسأل من قطعت رؤوسهم على الطرقات؟ أن يسأل الرؤوس التي علقت على أطراف الحديد؟ أن يسأل العذارى كيف حالهن اليوم؟ أن يسأل الأيتام؟ أن يسال الديار التي رحل سكانها؟ أن يسأل الأرض كم استقبلت من موتى؟ أن يسال نفسه ماذا ترتضي لنفسك اليوم؟ وهل ترضى لأهلك أن يحدث لهم ذلك؟ من ينام على فراش الراحة من السهل أن ينطق لسانه بما يرتضيه، ومن ينام على فراش الموت وأن شمس الغد تحمل سكينا تغرس في صدره فإنه يتمنى غير ذلك.

أنّها مرحلة الفوضى والانهيار واللاعودة لطريق الصوب، وهنا يكمن الخطأ في عدم قراءة المستقبل وتوقع أحداثه، بداية الثورات العربية كانت هادئة وسلميّة وهادفة لتحقيق العدالة، خرج الإنسان العربي لإصلاح مستقبل وطنه، لكنّه تحول إلى إنسان آخر، فتجرّد من إنسانيّته ومبادئه وأخلاقه وتحوّل إلى أداة القتل والتدمير، أو أصبح مغلوبا على أمره وتعرّض لمختلف أشكال العذاب والموت، يفسر البعض أسباب هذا التحول إلى فريقين، فريق يتهم الغرب بأن مصالحه أهدافه وأمنه سبب في تكوين هذه الفوضى في المنطقة العربية، وفريق يتهم الداخل بإعلامه ومشايخه الدينية ورجالاته السياسية وأمواله النفطية، وأن الطائفية والمذهبية هي السبب الرئيسي فيما حدث، ولكل فريق مصوغاته وأدلته، ولكن الفاعل واحد هو الإنسان العربي، والمرحلة هي مرحلة الفوضى التي لا يمكن التحكم في أحداثها بعد حدوثها، وهنا نرجع لصوت الحكمة والعدالة جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم في قوله "إذا اضطرب حبل الأمن، واهتزت أركان الاستقرار، فإن نتيجة ذلك سوف تكون الفوضى والخراب والدمار للأمة والفرد على حد سواء".

 

 

Hm.alsaidi2@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك