تشويه فضيلتي الجهاد والمقاومة

علي بن مسعود المعشني

بقيت فريضة الجهاد في بطون الكتب الصفراء من التراث الإسلامي، رغم تشعبها وتعدد معانيها اللغوية والشرعية ومقاصدها وشروط وجوبها في كل زمان ومكان. وهذا ما يعلمه علماء الإسلام وطلاب العلم الشرعي، وحديثنا هنا في هذا المقال المقتضب عن تشويه فضيلة الجهاد والمقاومة ومن واقعنا المعاش، رغم أننا كمسلمين نعلم أن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، ومادونه هو الجهاد الأصغر رغم مظاهر الدماء والتضحيات بعظيم النفس والمال.

ما سُمي وعُرف بالجهاد في أفغانستان كان هو الشغل الشاغل للمسلمين المعاصرين، وبالذات فئة الشباب منهم، حيث تقاطر عشرات الآلاف منهم من كل بقاع الأرض تلبية للجهاد المزعوم وسيل الفتاوى من علماء ومشائخ من فصلوا سيناريو الجهاد الأفغاني وألبسه لبوس الفريضة الشرعية ومنح من قاموا به صكوك الجنة ورفقة النبي الأكرم (ص) والفوز بالحور العين حتى ذكرت تقارير أن 42 ألف شاب مسلم - غالبيتهم العظمى من العرب - قضوا نحبهم في أفغانستان ومن بقي منهم على قيد الحياة صُنف لاحقًا تحت مسمى الأفغان العرب، وتحول في ليلة وضحاها من مجاهد إلى إرهابي مُطارد بعد انقضاء وطر الجهاد المزعوم في سيناريو من خطط له.

رغم كل مثالب وأهداف الجهاد الأفغاني ووظيفته من قبل الغرب ومن تبعهم من العرب، إلا أنّه نجح في إحياء فريضة الجهاد الحقيقي الغائبة عن الشباب المسلم والنُظم الرسمية والتي اختزلت الإسلام العظيم في الشعائر وهو ماعُرف بالإسلام الرسمي، ونجح بصورة أكبر في عودة الإسلام الحقيقي أو البحث عنه في قلوب ونفوس أبناء الشعب الأفغاني الذي مورست بحقه شتى صنوف التغريب وتغييب الدين في العهدين العلماني بقيادة الملك ظاهر شاه، ثم العهد الشيوعي بقيادة الرئيس بابراك كارمل. بل وأصبح النموذج الأفغاني بشقيه الروحي والجهادي مصدر إشعاع واقتداء في العالم الإسلامي "السُني" على وجه التحديد، وبالذات في الجمهوريات الإسلامية الوليدة من عباءة الاتحاد السوفيتي، المتداعي والقابل للتشظي بصورة مخيفة بعد نجاح التجربة الأفغانية والخوف من تداعياتها واستنساخها. خاصة وأن الثورة الإيرانية كانت كالزلزال الروحي لدى جميع أطياف المسلمين بلا استثناء وبالذات لدى الطائفة الشيعية الكريمة، حيث أجابت تلك الثورة العاصفة وتمكنت من تمكين الحكم لفصيل ديني والأهم كونها أول دولة شيعية خالصة في التاريخ الإسلامي، ولهذا حديث آخر تطول تفاصيله.

تداعيات النموذج الأفغاني أرعبت من صنع الجهاد، لتحقيق نظرية بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس كارتر الداعية للحروب الدينية، وكانت فاتحة تلك النظرية هي ماعُرف بالجهاد في أفغانستان بقصد إلحاق هزيمة نكراء بالسوفيت تعادل هزيمة الأمريكان بفيتنام.

من المعلوم أنّ دول في المنطقة تبنت خيار دعم التيار الديني التكفيري - رغم خطورته - لمواجهة التيارات المتأججة في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، من قوميين وناصريين وبعث بشقيه العراقي والسوري، وليبراليين. ويسار، فتحقق لها ذلك، ولكن بفاتورة استحقاقات عظيمة، حيث تغول التيار الديني المذكور وبحث لنفسه عن موقع يليق بحجم انتصاره، فكانت باكورة أطماعه ماعُرف بأحداث مكة عام 1979م، وهنا استشعر الجميع الرسالة وحجم الخطر المحدق بهم، فكان لابد من تصدير هذا الخطر إلى الخارج وكانت الساحة الأفغانية هي المسرح المثالي وعنوان الجهاد هو الخطاب الألحن لاستقطاب ذلك الخطر واستدراجه.

عكف المخططون للجهاد الأفغاني بعد انقضاء مهمته على وضع سيناريو يقضي على فضيلة الجهاد والنموذج السُني في الحكم معًا ويشوههما، لوقف وهج وإشعاع النموذجين وضمان عدم انتشارهما كثقافة في العالم الإسلامي، فأتت صنيعة طالبان كنموذج مسخ وجرى تسويقه وتثبيته قسرًا بأفغانستان، ليقوم بتلك المهمة التاريخية، ثم أتى عام 2001م ليتم تدمير نموذج طالبان وتقويضه وإعادة احتلال أفغانستان من قبل حلف الناتو وتقرير مصيره بذريعة خطر طالبان وانحرافهم.

النموذج الطالباني تم تصديره لاحقًا للاستفادة منه في تقويض المقاومة الباسلة في العراق وتشويهها، كونها ثقافة قضّت مضاجع الغرب وأصحاب مشروع الشرق الأوسط الجديد في المنطقة وستشكل بالنتيجة الحتمية التحامًا طبيعيًا مع المقاومة بلبنان وغزة، وبفعل مخطط طالبان وثقافته في العراق، لجأت المقاومة إلى قبول نموذج الصحوات كونها أصبحت تقاتل على جبهتين، المحتل الأمريكي والعدو الداخلي المتمثل في القاعدة، ثم تطور المخطط ليصبح طائفيًا بامتياز، لتفتيت ثقافة المقاومة وانتصاراتها بالاحتراب الطائفي وفتنته.

مانراه من نموذج داعش اليوم، والذي تربى وتمّ تفصيله في سجن بوكا الأمريكي بالعراق، ماهو إلا السيناريو الثالث والأخير، من فصول تشويه فضيلتي الجهاد والمقاومة، وزرع نموذج قسري عازل بين مكونات الهلال الخصيب، بزعم مواجهة ما سُمي تضليلًا بالهلال الشيعي ليصبح للإرهاب دولة أسوة بالمقاومة.

لاشك أنّ الحديث اليوم عن الجهاد أو المقاومة سيُصيب الغالبية منّا بالغثيان من جراء المشهد الدموي الحزين والمؤلم على الأرض، وهذا ما نجح به تيار التطبيع ودعاة مشروع الشرق الأوسط الجديد في تكريسه كواقع معاش، ولكن الواقع أن هذا الغثاء من القول والعمل، لن يصيب ويستقر سوى في عقول أغرار السياسة والتاريخ والبائسين من العرب، فهذا الواقع المزري سيفرز بلاشك صحوة بحجمه وقوته ولكنها مضادة له في الاتجاه والنتائج، ولا أبالغ إذا قلت بأن صحوة الأمة القادمة ستعادل في قوتها وتأثيراتها ما أحدثته الكنيسة البروتستنتية في الغرب، وتسببت في نهوضه العظيم، ولكن بروتستنتيتنا ستكون وفق موروثنا وأدواته وثوابته. فنحن أمة عصية في ضعفها وعصية في قوتها، كون وعد الله لها أن تبقى كما كانت خير أمة أخرجت للناس. فالمقاومة اليوم لم تعد فصائل مسلحة تعمل تحت الأرض وخلايا نائمة هنا ويقظة هناك، ولم تعد حركات تخضع للابتزاز والمساومات السياسية وأهواء النُظم الرسمية وتحت رحمتها، بل أصبحت دولة ومؤسسات ومعسكرات وجيوش فاعلة وأسلحة فتاكة تصنع الواقع وتفرضه بالقوة المسلحة وبالحاضن الشعبي العربي الواسع، وأصبحت ثقافة عابرة للحدود والأجيال معًا، وحراكا سياسيا ووعيا عميقا، وأقنية فضائية وصحفاً ومطبوعات وأقلاماً حرة داخل الوطن وخارجه، وتتسع رأسيًا وأفقيًا بحجم المُصاب الجلل الذي حل بالأمة من جراء طابور التطبيع ومروجي مشروع الشرق الأوسط الجديد البائس (الوهم المتجدد) والربيع المشؤوم، فهكذا الأمم العظيمة ابتلاءاتها عظيمة.

قبل اللقاء: كم هو جميل أن تموت من أجل وطن، وكم هو أجمل أن تعيش لأجله وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك