طرائف رمضانية!!

د . سعيدة بنت خاطر الفارسي

لعل أشهر بيت قيل في التذمر من الصوم والفرح بانتهائه هو قول أحمد شوقي : (رمضان ولى هاتها ياساقي

مشتاقة ٌتسعى إلى مشتاق)

ولا يُمكن بالطبع أن نتهم أحمد شوقي بضعف إيمانه وهو الذي كتب أجمل المدائح النبوية (ولد الهدى، وريم على القاع) تلك القصائد المعجزة الأولى تجاوز عدد أبياتها 130 بيتا، والثانية 190 بيتا.

لكن هناك دائمًا فئة تتضرر من الصوم بفعل سطوة العادة، والعادات - كما يقال - قاتلات ومن هذه الفئة فئة المدخنين، وفئة شاربي الخمور، وفئة مدمني القهوة والشاي، فهؤلاء ينتظرون الأذان بتلهف لكي يدخنوا سيجارة أو يحتسوا قهوة، وإذا كان هؤلاء ضحية التعود المميت فإنّ هناك فئات أخرى لها نوادر في الصوم ومفارقات، كالبخلاء والأطفال والمدخنين فمن التراث مقولة أبي نواس الشهيرة في هجاء الفضل وذمه بالبخل:

( رأيتُ الفضلَ مكتئبًا -- يناغي الخبز والسمكا

فأسبلَ دمعَه لما -- رآني قادمـًا وبكى

فلما أن حلفتُ له -- بأنيَ صائمٌ ضحكا)

ويحفل التراث بطرائف الحمقى ومن هذا في الصيام

( قيل لبعض الحمقى كيف صنعتم في رمضان؟ فأجابوا: اجتمعنا ثلاثين رجلا فصمناه يوما واحدا)

أما في ممارساتنا السنوية الرمضانية فلا أعتقد بأن أحدنا لم يتعرض لطرفة رمضانية ففي إحدى السفرات صيفاً أدركنا رمضان ونحن مجموعة من الفتيات والنسوة العمانيات في المغرب، وإذا كان موعد الإفطار في عُمان والمشرق العربي عموماً، يحين في السابعة أو بعدها بقليل صيفاً، فإنّ المغرب العربي يمتد به الموعد إلى العاشرة مساء، وكنا ننظر إلى الشمس في التاسعة مساء نجدها تسخر منا فهي مشعة بقوة ومتواجدة في السماء بهمة ونشاط ونحن قد جفَّ الريق والعود منِّا فلم نعتد على هذا الطول المسرف للنهار .. إحدى الصديقات واجهتنا مهددة للجميع:

(شوفوا ... أنا بصراحة سأفطر على توقيت عُمان وسأقصر في الصوم فأنا عندي عذر .. لأني مسافرة) ضحكنا على الحكمة المقلوبة .. وقلنا لكن القصر في الصلاة فقط، أصرتْ وفي الصوم أيضًا.. حاشا لله هذا ما فطور هذا سحور.. ولما تكالبنا على لومها قالت:

( إذن أعذروني بنام يوميا ولا تصحوني إلا عند السحور تقصد أذان المغرب) .

ولأنّ الجزيرة العربية لا تطاق صيفاً من شدة الحرارة ومن ثم العطش نتيجة لامتداد الوقت، ولأن الدين يسر لا عسر فيه، فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، كانوا يعوِّدون الصبية الصغار على الصوم تدريجيًا إلى أذان الظهر ثم يفطرونهم.

أما هذه الأيام فالصغار عقولهم أكبر من عقول بعض الكبار بحكم معطيات الزمن .. ولهذا يصرُّ بعضهم على الصوم باكرا والتشبه بالكبار مهما كلفه ذلك، وهذا ابني الصغير يصوم في عزِّ الصيف عندما كان في الصف الأول الابتدائي( ست سنوات) حاولت أن أجعله يفطر دون جدوى، وكنت أراه يتسحب عند الساعة الثالثة إلى المطبخ فأغضُّ الطرف عنه، إلى أن أخبرتني المربية وهي تضحك (مدام: محمد يأخذ شوية أكل ثم يختبئ تحت السلم ويأكل..)

قلت: أتركي له الأكل كل يوم وتظاهري بأنك لا ترينه، ظل ابني الصغير يومياً يفعل فعلته والمربية تعطيه ظهرها وكثيرًا ما تضع له العصائر والماء مع الأكل، وهو لا يتراجع عن إنهاء ما وضع له، ونحن نكيل له المديح بأنه رجل كبير ويصوم مثلنا...

أما نحن أهله الكبار فلقد رزقنا الله بأب شديد الطيبة غزير الحب واسع الأفق، وكان رمضان الشتاء أقسى وأشد إيلاماً بالنسبة لنا في الكويت من رمضان الصيف، حيث تصل درجة البرودة أحيانًا للتجمد ويكون الفراش الدافئ حضناً ومتعة كبرى لا يمكن أن تعادلها متعة، وكنا نتصامم عند السحور عن نداء عمتي لنا، ويشدُّ أخي الكبير اللحاف عليه كلما علا نداء العمة، حتى نسمع صرخة أبي :( دعوهم ينامون .. فنومهم عبادة ماذا يفعل الله بصوم هؤلاء الذين لا يعرفون حتى الاغتسال جيدًا.. ) وكان رحمه الله بعد هذه الجملة يضحك وينحى باللائمة على الكبار لصغر عقولهم، وإزعاجنا من نومتنا الدافئة، رغم أننا كنّا أكبر بكثير من الأطفال الذين يصومون الآن، بتكليف غير إنساني وغير واعٍ من الأهل، كنوع من التفاخر بأن أبنه يصوم، وأن تربيته بذلك مثلى . ومن الذكريات الرمضانية تبادل الأطباق بين الجيران، فقبل الفطور بساعة تقريباً نتراكض وتتطاير الأطباق في الدروب، وكان بعضنا في بداية الصوم أي في التاسعة أوما بعدها بقليل، وكانت كل الأطباق تأتي ممتلئة إلا طبق واحد دائماً يأتي منتصفا أو أقل .. ولأنني كنتُ أشك بصوم أختي الصغيرة، تبعتها ذات يوم دون أن تشعر، فإذا بها تلتقي هي وصديقتها أمام جدار لم يكتمل لبناء جديد، وخلفه تأكلان النصف من كل طبق ويأتي الطبقان ناقصان إلى البيوت، خبأتُ الأمر إلى الوقت المعلوم .. ذات مرة طلبتُ منها شيئاً فرفضتْ بعناد شديد قلتُ :

سأفضحك أنت وفلانة لقد رأيتكما وأنتما تفعلان فعلتكما، من يومها أصبح لدي كرت تهديد لم يبطل مفعوله، إلا عندما كبرتْ أختي وصامتْ بصدق .

أما ابن الجيران المراهق الكبير في السن، فكان يرمي أمام بيتنا بعلب التونة بعد أن يتغذى سرًّا بها، ذات يوم جرحته العلبة جرحاً غائراً وهو يفتحها بالسكين فصرخ طلباً للنجدة، وهرع الجميع لنجدته، من يومها أصبح اسمه أبو تونة .. أما صديقتي التي اعتادت أن تأكل ما تشاء طوال الطريق ثم تدهن لسانها بالطباشور المسروق من المدرسة لتثبت لجدها الذي ضربها بالخيزرانة أول يوم وثاني يوم لأنّه عرف أنها فاطرة وعندما سألته: كيف عرفت أني فاطرة !! قال لأنّ لسان الصايم يكون أبيض اللون أما لسانك فأحمر..) من يومها تعودتْ صبغ لسانها بالطباشير، فتأخذ قبلة من الجد وعشرين فلسا مكافأة على صومها.

أما أخي الكبير فقد سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم القائل (مَن أكل ناسيًا وهو صائمٌ فليُتمَّ صومَه، فإِنما أطعمه الله وسقاه) فكان يأكل ما يشاء وينهي كل ما في (قدر/ طنجرة) الطعام المتروك لغذاء الصغار، ثم يقول: ( أوه اللهم إنّي صائم وأنا نسيت وأنت يا رب أطعمتني) ظل يكرر فعلته هذه عدة أيام متوالية، إلى أن صاحتْ عصا الوالد على ظهره، فترك النسيان وذكرته العصا بأنّه صائم بحق ..

وتروى طرفة لأحد الظرفاء الأذكياء من المشهورين بخفة دمه ومشاغباته الطريفة، أنه كان يشرف على مجموعة من البنائين العمال الصائمين في يوم شديد الحرارة وهو واقف ليحثهم على العمل، لأنّ السبلة لابد أن تنتهي توسعتها قبل العيد، لكن العمال أرهقهم الحر، وكان الرئيس هو الوحيد المتعلم فيهم أي الذي يجيد القراءة والكتابة، فقال لهم مالكم لا تعملون بهمة، نريد الانتهاء من العمل قبل العيد، قالوا: رمضان والحر نريد أن نرتاح، قال لهم إذن افطروا، نظر بعضهم لبعض كيف نفطر والناس صيام، قال ألستم جائعين وعطشانين قالوا نعم، قال: إذن يحق لكم الإفطار، تساءل الجميع كيف؟ قال لأن الحديث عن الرسول يقول: ( يحق للجوعان والعطشان الإفطار في رمضان) سألوه هل متأكد أنت، قال طبعاً متأكد، ونادى صاحبة الدار أن تحضر لهم الأكل والشراب، ففعلتْ مع دهشتها، قالوا تفضل معنا، قال: لا يجوز لي الإفطار، أنا لست عطشانا ولا جوعانا، وبعد أن أكلوا استعاد العمال نشاطهم فأكملوا العمل بهمة ونشاط، وفي نهاية اليوم قال لهم أراكم غدًا، لكن تسحروا جيدا، ولا تنسوا عليكم بإعادة صوم هذا اليوم بعد انتهاء رمضان، أخذ العمال يتصارخون ويشتمونه، وهو يضحك مرددا: أنا لست مسؤولا عن غبائكم (هل يعقل أن يكون هذا حديث عن الرسول يا أغبياء) !!!

إنها طرائف لا تعد ولا تحصى للصغار والكبار فما بال هذا الزمن الواضح في قبحه تكاد الطرائف تختفي منه، والحدود الفاصلة بين الصغار والكبار تتلاشى، فكلهم يفتون، وكلهم علماء دين، وكلهم على درجة كبيرة من الوعي، درجة لا شك بأنها تغيظ .. تغيظ جدا جدا.

تعليق عبر الفيس بوك