هل الدراما العربية في رمقها الأخير؟!

رحاب أبو هوشر

كانتْ الشاشات تكتظُّ في شهر رمضان من كلِّ عام بأعمالٍ تقارب المائة مسلسل متفاوتة المستوى -كتابة وأداء وإخراجا- تتوزَّع مُحتشدة ومتضاربة في فوضى عارمة، نتيجة تنافس القنوات جميعها على حصاد الدراما في رمضان، موسم إنتاجها الأضخم، لزيادة معدلات المشاهدة الجماهيرية. وبالمحصلة؛ لم يكن المشاهد يتمكن من متابعة معظمها، إلا أنه كان يظفر بعمل أو اثنين على مستوى من جودة المضمون أو التمثيل، أو تحقيق نوع من المتعة الترفيهية؛ مما يجعل منه عملا ناجحا نسبيا، قابلا للمشاهدة، ويتوافر في حدوده الدنيا على عناصر العمل الدرامي كما عرفه طوال سنين مضت.

مَوْسم رمضان التليفزيوني هذا العام، حقَّق قفزة بالنسبة لأغلبية الأعمال الدرامية المعروضة وبرامج الترفيه، لكنها قفزة مروعة في الفراغ: غياب في المضمون والرؤية الدرامية، وابتذال وإسفاف، وتجاهل للواقع واجتراء يزوِّر التاريخ القريب والبعيد، وهزال فني إخراجي وتمثيلي لا يغتفر أو يحتمل، ناهيك عن تجاوز المعايير الأولية للذوق العام، واستخفاف ولا مبالاة بالمشاهدين وحاجاتهم، وهيمنة المنطق التجاري الاستهلاكي على ذلك الإنتاج.

شاشات التليفزيون في رمضان جاءتْ لتكمل سوريالية المشهد العربي؛ فبيما اشتعلت بلدان عربية بالتفجيرات والقتل وسيل الدماء مع مطلع رمضان، والمخيمات تغص بالنازحين المتزايدين كل يوم في أكثر من بلد عربي، الذين يصطفون طوابيرَ للحصول على وجبات إفطارهم ودوائهم، هدرت الفضائيات أموالا طائلة كان يمكن أن يُنفق جزء منها لتخفيف محنتهم، عوضا عن إنفاقها في أجور فلكية لفنانين لا يبذلون جهدا لإتقان أدوارهم التمثيلية، وما زالوا يكررون أداءهم ذاته منذ سنين، مهما كان الدور، ويستعيضون عن الإبداع بالاتكاء على نجومية تاريخية مثل الفنان عادل إمام، أو لا يجيدون التمثيل ويستثمرون في نجومية طارئة مثل هيفاء وهبي، الأعلى أجرا لهذا الموسم بين الممثلين!

ورَغْم التكلفة الباهظة لبعض الأعمال والبذخ الإنتاجي الواضح في مشاهدها، إلا أنها رشحت بالارتجال والمعالجات الهزيلة، ومنطق "السلق" لحاقا برمضان واضح في كل عناصرها، كتابة وتمثيلا وإخراجا. افتقرت إلى كتابة محترفة ومبدعة ومثقفة لـ"السيناريو"، وإلى أداء تمثيلي معقول ومقنع. ولتقليل كلفة الأجور من جانب آخر على ما يبدو، ظهر ممثلون اختفوا منذ زمن طويل وقد نسوا التمثيل، ولعب ممثل في الأربعين دور شخصية في الستين، وشاهدنا ممثلا سبعينيا يلعب دور أربعيني، وانتفى الاهتمام بتفاصيل الصورة والمشهد مما هو في صلب العملية الدرامية، وكان واضحا أن اهتمام معظم المخرجين كان منصبًّا على إنجاز الحلقات وتسليمها، أكثر من إخلاصهم أو اهتمامهم بسوية العمل إخراجيا.

... مسلسلات هذا "الرمضان" عجزتْ أيضا عن تقديم معالجة درامية حقيقية أو شبه ذلك، لعشرات من القضايا الاجتماعية والسياسية الملحة، وهربتْ نحو التسطيح وتزوير معطيات الواقع وتشويه حقائقه، ومحاولة التذاكي على المشاهد، كما لو أنه ليس جزءا من هذا الواقع وشاهدا على ما يجري فيه، كما هي حال المسلسل المصري: "أستاذ ورئيس قسم"! وهناك لازمة رمضان الترفيهية الأشهر: مسلسل "باب الحارة" بجزئه السابع، والمرشح لعدة أجزاء قادمة، ما دام قادرا على اجتذاب الإعلانات التجارية! فليس هناك من سبب آخر للإصرار على استمراره. إنه النموذج الأمثل للدراما التجارية المقدمة بغرض التسلية، حتى وإن كان على حساب الأفكار وحقائق التاريخ، بل وعلى حساب معايير وأسس فن الدراما ذاته، ذلك على الرغم من إسفاف "باب الحارة" المفرط، وإفلاسه هذا العام حتى من حكاياته الساذجة؛ إذ لم يعد هناك ما يمكن فعله أو قوله في الجزء السابع، وملئت مساحة حلقاته بمشاهد متهافتة للغاية، مثل تنظيف الأرض بالمكنسة لمدة دقيقتين، أما مشاهد الطبخ وشرب الجارات للقهوة والمناوشات الدائمة بين الإخوة، فمثلت ثيمة هذا الجزء الأساسية! وبما أنَّ الممثلين لا يجدون ما يمثلونه، فإنهم يلجأون للصراخ والتعابير المتشنجة ويجحظون بعيونهم في كل الأحوال!

... مُنذ أن ارتبطت الدراما التليفزيونية بموسم رمضان -بالتزامن مع ظهور الفضائيات- فقد تحوَّلت إلى سلعة تجارية تماما، وخضعت لمعايير عرض وطلب، وشروط الفضائيات وشركات الإنتاج الحريصة على تحقيق أرباحها المالية بشكل أساسي ونهائي، بمختلف عناصر عمليتها الإنتاجية، أي الكتاب والمخرجين والممثلين والفنيين، وفقدت بذلك فلسفتها وهويتها باعتبارها صناعة إبداعية فكرية وثقافية في جوهرها، ولها دورها وأهميتها في التنوير، ومعالجة قضايا المجتمع والمساهمة في التغيير، إضافة إلى قيمتها الفنية الجمالية ومساحتها الترفيهية.

أصبحتْ الدراما العربية مُفردة من مفردات التسلية الرمضانية، ولها من الإبداع ما يخدم هذا الغرض فقط -إثارةً وضحكًا ومخاطبة غرائز ومحاكاة واقع مُتخلف- وفي ظل التدهور الحاد في الحياة العربية، اقتصرت وظيفتها هذا العام -خصوصا- على مد الفضائيات بسلعة تجارية ترفيهية، تُشبع نهم العيون المسمرة على الشاشات، ويمكن أن تكون فاصلا جذابا لجمهور المشاهدين، خلال مسلسل الإعلانات التجارية الطويل.

تعليق عبر الفيس بوك