بين الحرية والكرامة الإنسانية في رؤية الإسلام

عبد الله بن علي العليان

لم تحظ فكرة إنسانية عظيمة بالاهتمام والتأصيل والانشغال منذ فجر التاريخ وحتى اليوم،بمثلما حظيت به قضية الحرية، باعتبارها قيمة كبيرة في الفكر الإنساني ارتبطت بحياة الإنسان ووجوده وكيانه ارتباطاً وثيقًا، فقد كافح الإنسان وناضل عبر التاريخ لاستعادة حريته وكرامته كإنسان من أسر العبودية والاستغلال والاسترقاق التي عانت منها شعوب كثيرة عرفها التاريخ الإنساني عبر قرون مديدة وعندما جاء الإسلام برسالته التوحيدية السماوية كانت دعوته ناصعة واضحة في مسألة الحق في الحرية الإنسانية ومنطلقاتها،وفي إعطاء الإنسان، باعتباره إنسانًا، الحق في الحرية والكرامة بما أرساه الإسلام من مفاهيم أوجبت هذا الحق لكل بني البشر دون تمييز أو إقصاء، ومنحهم حق الاختيار في الاعتقاد، ولم يكره أحداً على اعتناق هذا الدين، وهذا ما تحقق في قوله تعالى [أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، ولو شاء ربك لآمن من الأرض كلهم جميعاً) ( يونس 128/69). كما كانت مقولة الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في حق الحرية ناصعة مدوية في قضية الحرية في الإسلام: متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟، فكانت هذه المضامين "الثمرة والترجمة المثالية والعملية للدين الذي ينشد تحرير الإنسان من كل ألوان القيود والعبودية لغير الله تعالى الخالق، والذي أقام الوجود الإنساني على أساس الكرامة الإنسانية.وهذه القيمة العظيمة التي أرساها الإسلام للحرية أسهمت في تحرر الفرد عن طريقها من الخوف والذل والشعور بامتهان الكرامة، وأصبح النّاس سواسية لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والجهد والعلم والدين.كما جعل الإسلام الاعتقاد والإيمان خاصاً بالإنسان واختياره بحريته، دون إجبار أو قهر في أن يعتقد ما يشاء ويؤمن عن بيّنة وإدراك واقتناع من ذاته، فمفهوم الحرية في الأساس "يدور حول معنى أساسي، وهو ممارسة الإنسان اختياراته ومراداته دون إكراه، والإسلام دين الفطرة يحمي في الإنسان حريته واختياره، وأكرم ما يشرف العقل من اختيار هو تبني عقيدة سليمة وإن قصر عقل الإنسان عن ذلك ليس لأحد أن يجبره على تبديله أو تغييره يتبين ذلك من خلال ما يلي:

1ـ إنّ الواقع التاريخي يشهد أنّ الإسلام قد دافع عن حرية الاعتقاد، وقد كان حقاً غالياً ثميناً، كافح المسلمون من أجله في بداية الدعوة في مكة ثلاث عشرة سنة، يتحملون المشاق في سبيله حتى استقر لهم الأمر في النهاية، ولما حصل المسلمون على الاستقرار اعترفوا بهذا الحق كاملاً بالنسبة لأصحاب العقائد الأخرى "والتاريخ الإسلامي كله يخلو من أيّ حادثة فرض المسلمون فيها دينهم بالقوة والإكراه على الرعايا غير المسلمين أو اضطهادهم شعباً لينطق بكلمة أو حرف".

2- فرض الإسلام على الجماعات الدينية أن يحترم بعضها الآخر، ومنع أن تنقص كل منها من قدر أئمة الآخرين وزعمائهم، أو أن تلحق بهم الإهانة والسباب وما إليها وقد ورد ذلك في القرآن الكريم أمراً لازماً يعلمنا احترام معتقدات الآخرين وأئمتهم قال تعالى "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله" (الأنعام:6/108) وفتح القرآن الكريم باب الجدال المهذب تطرح من خلاله الآراء والأفكار وتناقش على أسس عقلية واعية دون تحيز أو تعصب قال تعالى "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" (العنكبوت :29/46 ).

3 ـ كفل الإسلام حماية أصحاب العقائد الأخرى الذين يعيشون في الدولة الإسلامية والإحسان إليهم، قال تعالى:" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم." الممتحنة:(60/8 )وألزم كذلك المسلمين بحماية عقائدهم والدفاع عنها فقد أمر المسلمين بالهجرة عند التضييق على معتقداتهم من قبل الأعداء.قال تعالى :" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ." (النساء :4/97).

وقد تناول الإسلام قضية الحرية انطلاقاً من حقيقة أنّ هذا الدين أتى باعتباره إشراقة تحرر للفرد من كل خوف، وسما على كل شرك، فأصبح الناس سواسية، لا فضل لأحدهم على سواه إلا بقدر ما أصاب من تقوى في الدين والعلم بأموره والإحاطة بأحكامه.ولذلك أشار الإسلام " إلى حرية الإنسان في أن يعتقد ما شاء ويؤمن بما أراد عن بينة وإدراك لما أقدم عليه من داخل النفس، دون جبر ودون قهر أو إكراه، فكان أساس الدعوة استقلال الفكر وحرية الفرد من منطلق المساواة، بلا تمييز بسبب اللغة أو اللون أو الجنس. وقد اهتم الإسلام السابق للثورات الحضارية بأكثر من أحد عشر قرناً من الزمان بحقوق الإنسان التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من كيانه، والذي شيد بها الحضارة وبنى على أسس منها ـ ومن تحقيقها ـ صرح مبادئ اجتماعية وسياسية ثابتة على مر السنين والعصور .

ولقد أقام الإسلام رؤيته إلى قضية الحرية على أسس راسخة منذ نشأته، مرتكناً فيها إلى تكريم الإنسان وإعلاء شأنه وتحقيق الاستقرار له في حياته كما كفل له ممارسة نشاطاته على مختلف صورها وشتى مصادرها، فجاء بذلك متمشياً مع رغبات الحياة ـ حقيقة كيان الفرد وحسب الفطرة التي فطرها الله عليها (فطرة الله التي فطر الناس عليها) وكفل الإسلام منطلق الفكر العقلي محققاً للفرد حريته في ذاته وفكره وتجاربه.يترك الإسلام الإنسان لنفسه، بل حباه بما كرّمه الله به من إنارة الطريق وبيان سبيل الرشد وطريق الشرك، ليفكر ويحكم عقله ويختار بين أي الطريقين يسلك.كما أن ما تضمنته أحكام الإسلام من أسس ومبادئ تعد من أعظم صور ممارسة الحرية ما دامت لا تحض على الشر أو تنشر الشرك، فهي مكفولة طالما حققت السلام للإسلام والأمان للمجتمع، وصالحه العام والمشترك بين أفراده، وهذه أهم أركان النظام العام بمفهومه العصري (والدارس لأصول الفقه وأحكام الشريعة تتجلى أمامه ولأول وهلة، حقيقة واضحة وهي أن الإسلام هو دين الحرية ومناطها وموئل عزها وأملها الكافل لممارستها المدعم لشتى صورها والداعي لها من خلال نظام محكم يفوق غيره من النظم التي سارت قبله أو تلك التي عاصرته في أقطار أخرى) .

فقد نادى الإسلام بمبادئ الحرية الفردية وكفل المساواة ومعها الحرية الاجتماعية،وتحقق منه ذلك قبل عدة قرون مضت قبل أن يطرح الفكر المادي والمذهب الاشتراكي لجنبات فكره على الدنيا".

ولا شك أنّ الفكر بمعناه اللغوي هو إعمال النظر في جانب حركة الذهن لتحصيل المعلومة، وترتيب أفكارها بمنهج العقل للوصول إلى المعرفة من خلال حرية التفكير والنظر.ومن هنا فإن الإسلام حرص على حرية الفكر وشدد على فتح الآفاق الفكرية بصورة رحبة في جوانب التعبير، والنظر والتفكير، والتداول والاستدلال، فانطلقت حضارته العظيمة في كل أرجاء الدنيا وفي كل شتى المعارف الإنسانية، في الوقت الذي تراجعت الحضارات الأخرى، وانزوت على نفسها بأفكار التخلف والجهل والاستبداد.وحينما تتاح حرية الرأي في مستوى الإعلان والحجاج فإنّ العقل ينفتح على الرأي المخالف والمعطيات المضادة، وتتم في نطاق الحوار المقابلة بين الآراء فيسقط الضعيف ويصحّ القوي، وذلك أمر بيّن بالمشاهدة. أما الكبت والمنع من التعبير والمحاورة فلا يثمر إلا الانغلاق على الرأي الواحد، والتشبث به والتعصّب له، فلا يكون العقل ناظراً إلى الأمور إلا من زاوية واحدة قد تخطئه الحقيقة أحياناً كثيرة، ولا غرو حينئذ أن ينمو التعصّب للآراء والتشبث الأعمى بها في كل مناخ تصادر فيه حرية التعبير، وأن تنمو المرونة العقلية، وتقبّل التصويب في كل مناخ تشيع فيه هذه الحرية. وما أروع التربية النبوية في هذا الخصوص، فقد انتهجت نهج الانفتاح على مضادات الآراء بما أتاحته من حرية القول والاحتجاج والنقد، وقد اتخذ النبي (ص) شعاراً له " أشيروا " عليّ أيها الناس وهو شعار تربوي يهدف إلى تربية المسلمين على الفكر النقدي المقارن بإتاحة الحرية الواسعة في القول والحجة، وإلا فإن الحق بائن لديه إذ هو المؤيد بالوحي المعصوم من الخطأ.وكذلك الأمر بالنسبة لحرية الرأي في مستوى التعبير والمناظرة، فإنّ من شأن الإعلان عن الرأي والدعوة إليه أن يكشف بما يصير إليه من الحوار عن عناصر الذاتية فيه، تلك التي قد تكون لصيقة الطبع الإنساني فيغفل عنها العقل لذلك، أو تكون وليدة القصد لتحقيق المآرب، فالحرية من خلال الحوار، قد تكشف كل ذلك، وتعيد الأنظار في بحث الموضوع إلى معطياته الحقيقية من واقعه الموضوعي. وإننا لنكتشف في كثير من الأحيان أن أحكاماً نصدرها في قضية ما هي في حقيقتها من صنع الذات وإنما نسقطها على القضية إسقاطاً،وذلك حينما نطرح تلك الأحكام في ساحة الحوار.

تعليق عبر الفيس بوك