التطور في العلاقات السعودية الروسية.. الأسباب والنتائج

محمد بن سالم البطاشي

مثلت زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد ووزير الدفاع في المملكة العربية السعودية إلى روسيا منعطفا هاما للدبلوماسية السعودية التي ظلت تتحفظ على تطوير العلاقات مع روسيا نتيجة تراكمات سياسية وفكرية واقتصادية يضيق المقام عن الخوض فيها.

وحيث إن المبدأ الدبلوماسي القائل بأنه لا توجد صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل توجد مصالح دائمة لا يزال فاعلا ومؤثرا، فإن المملكة العربية السعودية يبدو أنها قد بدأت تنحو هذا المنحى، بعد أن رأت واختبرت مدى تثاقل الغرب وتباطئه بل ونكوصه عن وعوده والتخلي عن التزاماته بحماية مصالح حلفائه وشركائه في المنطقة في أكثر من موقف وقضية، رغم ما قدمه هؤلاء الحلفاء من خدمات ومساعدات وتضحيات جاءت أحيانًا على حساب برامج التنمية وخطط الإنعاش الاقتصادي، وهو ما يعد تحولا لافتا لنظرة الغرب عامة والولايات المتحدة على وجه الخصوص لدول الخليج باعتبارها منطقة ذات أهميّة استراتيجية استثنائية وتمثل أحد الركائز الهامة في السياسة الخارجية للدول الغربية.

ومن بين المؤاخذات العديدة لدول الخليج يبرز تباين موقف الغرب من قضايا المنطقة الملحة أو عدم انسجامه مع مواقف الدول الخليجية، ويتضح ذلك جليا في المواقف الهلامية والمترددة بل والمتناقضة من التطورات المتلاحقة في العديد من البقع الملتهبة والتي تمس أمن الخليج مباشرة كالعراق وسوريا واليمن، والتي تجلى فيها خذلان الغرب عامة والولايات المتحدة على وجه الخصوص للموقف الخليجي في عمومه والسعودي على وجه الخصوص، بحيث اقتصر التأييد والدعم على الكلمات الرنانة بدون دعم حقيقي ومؤثر واتضح أنّ الهدف من هذه المواقف هو التشبث بالعصا من المنتصف وكسب الوقت رغبة في عدم إزعاج الدولة القوية الصاعدة في الجانب الآخر من الخليج.

كانت المفاوضات الغربية مع إيران حول الملف النووي هي التي كشفت كل الأوراق وعرت كل المواقف وبينت حقيقة الكلام المعسول للدبلوماسية الأمريكية وفضحت النوايا المبيتة للإدارة الأمريكية واتضح حقيقة موقفها ونظرتها المستقبلية لدول الخليج ودورها في المنطقة. ويبدو أنّ الإدارة الأمريكية باتت تعول على دور إيراني أكثر نشاطًا في ضبط حركة الحوادث في المنطقة، وبدأت في صياغة استراتيجية جديدة في المنطقة تقبل بموجبها دورا متزايدًا للسياسة الإيرانية وربما دورا تشاركيا مع إيران في هذه المنطقة، وللولايات المتحدة والغرب عموما نظرتهم الخاصة للأوضاع في المنطقة تنبع من التطورات الجيوسياسية التي تمر بها المنطقة والمتغيرات الاقتصادية العالمية ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:

  1. الصراعات التي تموج بها أكثر من بلد عربي والتي قد تسفر عن نشوء دول وكيانات تغير الخارطة السياسية للمنطقة، وفي هذا الإطار تنظر دول الغرب إلى إيران باعتبارها ضابط الإيقاع القادر على التحكم في توجيه حركة الأحداث بطريقة أو بأخرى.

  2. يبدو أن النفط الصخري قد حرر الولايات المتحدة من الاعتماد المزمن على النفط المستورد من دول الخليج في معظمه بعدما أصبحت إحدى الدول الكبرى المنتجة له والذي حقق اكتفاء شبه ذاتي لها مما أفقد دول الخليج تلك المكانة المتميزة التي ظلت تتمتع بها لسنوات عديدة.

  3. تنظر الولايات المتحدة لدول المنطقة باعتبارها دولا غير مستقرة سياسيا، وعليه فإن مسألة الاعتماد عليها إجراء ليس مأمونًا على المدى البعيد، وإنه لضمان مصالح دائمة للغرب في هذه البقعة الحساسة من العالم فلا بد له من التعاون مع شريك قوي يعتمد عليه وهذا الشريك سيكون إيران بجانب كل من إسرائيل وتركيا ودول الخليج بدرجة أقل.

  4. ظهور تيّارات وجماعات دينية متطرّفة تؤمن بالعنف للوصول إلى السلطة وتجتذب بدعايتها وتظليلها الإعلامي أنصارًا من الأوساط الشبابية، وأنّ هذه الظاهرة آخذة في الإتساع والتفاقم وأن الولايات المتحدة وأوروبا قد لا تستطيعان منفردتين مواجهة الموقف وبالتالي فلا بد من البحث عن شريك قوي له مصلحة في التصدي لهذه الجماعات، وهنا تأتي إيران لتقدم نفسها شريكًا يعتمد عليه، وخير مثال على ذلك الدور الإيراني في مواجهة تنظيم الدولة في العراق.

  5. إنّ التنوع الطائفي والمذهبي في منطقة الشرق الأوسط يتيح لإيران نوعًا من التأثير والنفوذ على بعض مكونات هذا النسيج بما يمكنها من لعب دور في استقرار الأوضاع في بعض دول المنطقة.

  6. إنّ الثقل السكاني والاقتصادي والعسكري والامتداد الجغرافي والموقع الجيواستراتيجي الذي تمثله إيران يحتم على الدول الغربية النظر إلى إيران باعتبارها دولة إقليميّة فاعلة ومؤثرة في مجريات الأحداث في المنطقة وبالتالي فإنّه لا بد من إيجاد طريقة ما للتعامل معها.

  7. إنّ فشل الغرب في محاصرة إيران سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا قد برهن على أنّ سياسة الصدام ليست بالآلية المثلى التي يمكن أن تحقق الأهداف المرجوة منها.

  8. إنّ التجارب المريرة التي خاضها الغرب جراء تدخله المباشر والتكاليف الباهظة الناجمة عنه وتأثيراتها المتعددة على الاقتصاد الغربي قد أجبر الولايات المتحدة على إعادة النظر في استراتيجية التدخلات المباشرة في شؤون دول المنطقة، ونتيجة لهذه القناعة فقد بدأت الولايات المتحدة تنسحب تدريجيًا من مسرح الأحداث مما ولّد نوعًا من الفراغ، فكان لا بد من طرف آخر يتقدم لملئه - كما هي طبيعة الأمور- وكان الظرف مهيأ لتتقدم إيران لفعل ذلك مستخدمة أذرعها الخفية والظاهرة ووجد الغرب نفسه - كارها أو راضيا- مرغما على التعامل مع هذا الوضع الجديد.

  9. إنّ المفاوضات يشأن الملف النووي الإيراني قد شارفت على نهايتها وأن مسألة التوقيع على الاتفاق التاريخي بصورة نهائية باتت مسألة وقت ليس إلا مما يقرب إيران من الانفكاك من الحظر الدولي عليها وعودتها إلى حظيرة المجتمع الدولي ونظامه المالي، وقد يكون من نافلة القول أنّ هناك تفاهمات سياسية واستراتيجية حول مستقبل المنطقة والدور الإيراني فيها لابد من أن تصاحب مثل هذا الإتفاق.

من ناحية أخرى فإنّ دول الخليج لم تكن غافلة عن هذه التطورات بل كانت ترقبها بعين الشك والريبة، رغم تأكيدات قادة الدول الغربية على أن استراتيجيتهم ونظرتهم إلى المنطقة ستظل ثابتة وأن التزامهم بمصالح وأمن دول الخليج يدخل ضمن ثوابت سياستهم الخارجية، وقد عبرت الدول الخليجية عن قلقها الشديد من هذه التحولات الإستراتيجية عبر الغرف المغلقة في بادئ الأمر ثم صراحة عبر المؤتمرات المتخصصة في النواحي الأمنية والإستراتيجية والتنموية، ولكن ذلك لم يجدِ نفعا في وقف الاندفاع الغربي نحو إيران واستمرت التوجهات الغربية تسير بعكس ما تشتهيه بعض سفن الدول الخليجية.

وربما كانت قمة كامب ديفيد الأخيرة نقطة تحول في مسار العلاقات الخليجية الأمريكية فقد اتضح ما كان ملتبسا وبصورة لا تقبل الشك أن الولايات المتحدة لن تتدخل في الأزمات التي تشهدها المنطقة وأنّها تركت المنطقة للتوازنات الإقليمية وأنّ على دول الخليج أن تتدبر أمورها في خضم هذا اليم الهائج معتمدة على نفسها دون انتظار لدور مؤثر للولايات المتحدة، ووفقا لهذه المعطيات وما سبقها فقد كان لزامًا على دولة بحجم المملكة العربية السعودية أن تدرس البدائل الممكنة التي تتيح للمملكة مرونة أكبر في تحركاتها محليا ودوليا وفي هذا الإطار فقد جرت مشاورات ومباحثات مطولة بين الجانبين السعودي والروسي منذ فترة، ففي شهر أبريل الماضي جرى اتصال مطول بين خادم الحرمين الشريفين والرئيس الروسي، بعد ذلك اجتمع الملك سلمان بالمبعوث الخاص للرئيس فلاديمير بوتن في 27 مايو قبل يوم واحد من تقديم السفير السعودي أوارق اعتماده للمسؤولين الروس، وقد كان موقف روسيا في مجلس الأمن أثناء مناقشات الأزمة اليمنية وتحديدا موقفها من القرار رقم 2216 الذي بارك عاصفة الحزم من العوامل المؤثرة التي جعلت المملكة العربية السعودية تيمم وجهها شطر روسيا التي قابلت الخطوة السعودية بترحاب كبير نظرا لما تمثله السعودية من أهمية بالغة في هذه المنطقة من العالم.

ولربما قد تلاقت الرغبتان السعودية والروسية في تطوير العلاقات الثنائية نتيجة لنظرة إيجابية متبادلة كل من منظوره الخاص وبسبب ظروف معينة تمر بها كلتا الدولتين، فروسيا تعاني من عقوبات اقتصادية وعزلة على المستوى الدولي نتيجة لموقفها من الأحداث في أوكرانيا ونظرة الشك التي تنظر بها الدولة الروسية لتحركات الحلف الأطلسي على مقربة من حدودها وبرنامجه للدفاع الصاروخي، وبالتالي فإنّ انفراج علاقاتها مع السعودية بما تمثله من سوق واعدة وقدرة سعودية استثمارية لا يستهان بها سيمثل لها متنفسًا هامًا للخروج من شرنقة الحصار، كما يشمل ذلك فتح أسواق الخليج أمام المنتجات الروسية وإقبال المستثمرين الخليجيين على الاستثمار في روسيا وهو ما يعتبر تعويضًا عن الاستثمارات الأمريكيّة والأوروبيّة التي تقلصت بشكل كبير، وكل ذلك سيتم عبر البوابة السعودية.

أمّا المملكة العربية السعودية فترى في روسيا دولة كبيرة تتحكم في مفاتيح كثير من الأزمات التي تعيشها المنطقة وأنه وفي ظل الظروف الحالية فلا بد من دعوة روسيا إلى لعب دور مؤثر بما يؤدي إلى فتح مغاليق بعض النزاعات التي تعصف بالمنطقة بفضل المميزات التي تملكها روسيا ومن ذلك:

1- تتمتع روسيا بعلاقات تحالف مع الرئيس بشار الأسد بما يمكنها من التدخل لإنهاء الأزمة السورية بالتعاون مع المملكة العربية السعودية التي لديها نفوذ كبير لدى الجماعات المسلحة التي تقاتل النظام السوري.

2- لدى روسيا علاقات مميزة مع إيران بما يؤهلها للعب دور معين في تحسين العلاقات بين السعودية وإيران بما يعمل على حلحلة الأزمة اليمنيّة التي باتت مستعصية، وكذلك تسوية الوضع المأزوم في لبنان والتوصل إلى تسوية ترضي الأطراف المتنازعة في العراق.

3- ترغب المملكة العربية السعودية في تنويع مصادر الأمن الغذائي عبر شراء بعض الشركات الزراعية الروسية، مما يتيح لها مجالات أوسع للتحرك والمناورة السياسية بعيدًا عن الضغوطات الغربية والتي كثيرا ما تستخدم سلاح الغذاء في تنفيذ أجندتها السياسية.

4- ترغب المملكة العربية السعودية في دخول عالم الطاقة النووية السلمية والاستفادة من الخبرات الروسية في هذا المجال، حيث وقعت معها اتفاقيّة لبناء 16 مفاعلا نوويًا للأعراض السلميّة في المملكة ضمن برنامج طموح للتعاون المشترك اشتمل على توقيع 6 اتفاقيات متعددة المجالات.

5- من الملفت أنّ اتفاقية التعاون الواسع النطاق التي ناقشها وزير النفط السعودي مع الجانب الروسي هي من أكثر الأمور التي أقلقت الجانب الأمريكي ذلك أنّ التعاون النفطي بين السعودية وروسيا سيؤدي حتمًا إلى تحسن في الاقتصاد الروسي في المدى المتوسط مما يقلل أتر العقوبات الاقتصادية التي تسعى الدول الغربية إلى فرضها على روسيا.

6- تعمل الاستثمارات السعودية في روسيا على توسيع الرقعة الجغرافية للاستثمارات السعودية بما يحقق نوعًا من الأمان الاقتصادي والسياسي لهذه الاستثمارات.

خلاصة القول إنّ المراقبين يرون في التقارب السعودي الروسي محاولة لقلب الموازين في الصراعات التي تشهدها المنطقة حاليا، ولربما أدّت إلى حلحلة لتلك الصراعات بالتوازي مع دور روسي للتقريب بين دول الخليج وإيران وهو الأمر الذي تسعى إليه السلطنة منذ مدة، من أجل أن تنعم المنطقة بالأمن والاستقرار لتتفرغ لهموم ملحة بانتظارها، ليس أقلها مواجهة الإرهاب العابر للقارات وتحفيز الإقتصاد وتنويع مصادر الدخل من أجل تنمية مستدامة، وهو ما تأمله أغلبية شعوب المنطقة.

mohammed161@hotmail.com


تعليق عبر الفيس بوك