فضائيات بين النُواح والصُراخ

هلال بن سالم الزيدي*

تموج المائدة الرمضانية بين قضايا الترفيه المُعلبة والمعادة في طرحها من أجل إضفاء نوع من الضحك وبين جرعات دينية قليلة.. فهو ضحكٌ على ذقون المشاهدين حتى تصل المسألة إلى الاستهزاء المقيت، فالشاشة متخمةٌ بالمشاهد الرخيصة في قدها وقديدها، وهذا يعود في مجمله إلى ضعف الإنتاج ودونية من يمتلك زمام تقديم الأفكار، كأن الشعوب العربية تحتاج إلى جرعات عالية من الترفيه المؤدي إلى تقديم العربي بصورة غير لائقة مقابل الصور الإعلامية القوية التي تصور الشعوب الأخرى، وهنا يحضرني الإعلام الغربي عندما صور العربي فوق جمله ويحمل برميل نفط غير واعٍ بما يدور حوله، وهذه صورة رسمناها للغرب بأنفسنا، لأننا لم نقدم صورتنا الحقيقية وإنما ركزنا على سفاسف الأمور التي تساهم في إنتاج جيل متشرذم يفتقد إلى هويته وعروبته، فملايين الريالات تصرف مقابل ضحكة وعري وتفسخ إلى أبعد الحدود يقدم ثُلة من الأفراد لا يعرفون كيف يستفيدون من الثورة التكنولوجية في منظومة الإعلام .. لذلك ثملت الشاشة بمشاهد يغلب عليها طابع التكرار والاستخفاف.. فإلى متى ندور في حلقة مفرغة غير آبهين بتقدم الشعوب؟

لقد استحوذت أوقات الذروة على رسائل إعلامية غير ممنهجة لصالح الشعوب في تنوير العقول وتقديم الإبداع بصوره الإنسانية التي من شأنها بناء حضارة وتكوين قيم خلّاقة يجد الفرد فيها مصلحته، وإنما صور ورسائل منتهية الصلاحية لا تحمل في طياتها ما يمكن أن يفيد المجتمع بأكمله، فالصراخ والعويل، والخداع والخيانة والتقزيم سلوكيات ازدحمت بها ساعات الذروة، وأُبعدت البرامج ذات الصبغة الفكرية إلى أوقات يكون فيها المشاهدون قلة، لذلك بُنيت الرؤية على احتياجات فئوية لأناس يبحثون عن الضحك فقط، وهو ضحك يوضح غباء صنّاع تلك الرسائل في مجملها، وأنا هنا لا أتجه إلى السلبية في قراءتي للمشهد، ولعل الكثيرين من المشاهدين ابتعدوا عن شاشاتهم المفضلة لأنّها لم تحترم كياناتهم، وعليه فهي قضية متكررة سنويا، والجميع يعرفها وقد كثُر الحديث عنها، لأننا لا نؤمن بتعدد وجهات النظر، ولا نترك للمختصين وأصحاب الشأن المجال حتى يتمكنوا من تقديم برامج تليق بعروبتنا وإنسانيتنا إلا النذر القليل من البرامج التي تأتي على هامش المائدة الرمضانية.. نعم نحن بحاجة إلى صُنّاع حقيقيين يتبنون رسائل هادفة وذات مغزى في بناء الأمم والحضارات.

لا نبحث عن المثالية، وإنما نحاول أن نوجه بوصلة الإعلام في اتجاهاته الواقعية التي تأسس عليها واستفادت منه الشعوب الأخرى في تقديمها لمجتمعها وجعلها تتسيد المشاهد بشكل عام، فلو تتبعنا تلك القائمة التي يزخر بها جهاز الاستقبال نراها كثيرة في عددها لكنها قليلة في فوائدها، فمعظمها يسير حسب أجندة تفتت من تلاحم المجتمع مع بعضه البعض، حتى ضاعت الهوية العربية فأصابها التفسخ والعري الذي يقدم المرأة سلعة ينهش منها الرجل أينما حلت وكيفما كانت، وهذا بدوره يؤثر في بناء جيل يستطيع أن يكون حاضرًا وسط أجيال العالم، نعم نحن متأخرون ومتخلفون ولا نستطيع أن نؤثر في الآخرين لذلك تشرذمنا وتفتتنا إلى طوائف ومذاهب ودويلات لا قوة لها.

يعتبر الترفيه الهادف جزءا مهما من وظائف الإعلام، لكننا لم نبن هذا التوجه من أجل الارتقاء بعقلية المشاهد، وإنما وجهنا البوصلة في اتجاهات الوقاحة والسماجة في تقديم شخوصنا ومجتمعاتنا، لذلك غابت روحانية شهر رمضان، فاضطرت الكثير من الأسر أن تلقب الشاشة وتوجهها في عكس اتجاهها في بداية شهر الرحمة والغفران، ولعل هذا التوجه ينحصر على قوة الأسرة ومدى تمسكها بمبادئها التي لا تحيد عنها من أجل عيون تلك الفضائيات التي هاجت وماجت في وصف المجتمع بأنه مجتمع همجي يعاني من قيم اجتماعية ودينية مقيتة لا تصلح في هذا الزمن، فالرجل إما جشع أو متفسخ الأخلاق، والمرأة كيان ساذج تهتم بنهمها تجاه الموضة الرخيصة ومسايرتها لها، فالكل يعيش منفرداً وسط التكنولوجيا المسخرة في الاتجاه السلبي.. وهذا في شأن البرامج الاجتماعية، أما الدينية فحدِّث ولا حرج.

تحول الدعاة ومشايخ العلم إلى "موديل" سنوي وذلك عبر البرامج الدينية التي ظهر فيها الداعية متوشحًا بشته ومتنقلا بين الدول يقص علينا القصص المعادة والمتكررة التي تجعله معصوماً من كل شيء، إلى جانب تلك الوجاهة الصارخة في ديكورات البرامج، فتجد البعض يتفنن في الخروج عن المألوف بعبارات يظن أنّها تستقطب المشاهد كالضحك وضرب الأمثلة الدونية في مغزاها، من أجل كسب قوة متابعة من قبل المشاهدين ليكيلوا لهم الثناء المفتعل والذي أصبح لا يخفى على أحد من المتابعين.. هذا إلى جانب التركيز على المسائل المختلف حولها من قبل علماء الدين، حتى يؤجج الصراع ويُثير الانتباه.. فكل في وادٍ يهيم على هامته.

تختلط الرسالة في خريطة البرامج الرمضانية وذلك كله من أجل كسب المال، حيث يُعد الشهر الفضيل شهرا يتكسب من وراءه أصحاب الفضائيات، لذا تجدهم يجندون كل الإمكانيات للظفر بإعلانات تدس السم في مضمونها لتوجه المشاهد إلى الاتجاه السلبي، هذا إلى جانب خلطها بما يقال إنّه ديني حتى تحقق جزءا من إرضاء الفئات الاجتماعية الأخرى، لذلك أصبح المشاهد أضحوكة في أيادي هؤلاء التجار.. ليكون مشهد الفضائيات هزلٌ وشيء قليل من جدٍ مسموم.

همسة:

إنّه الفضاء المفتوح .. يكثر فيه النواح .. وكل شيء فيه مباح .. حتى صار النباح والرقص على الجراح قصة لا تنتهي من المساء وحتى الصباح.. فابتعدنا عن قيم النجاح .. ومبادئ الحياة والفلاح .. لنسقط في غياهب النقص بالرقص والقص ثم اللصق على جبين الحياة .. لنوهم أنفسنا بأننا الشعوب المختارة.

*كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك