المقاصد الحضارية في خطبة الوداع

حاتم الطائي

ونحنُ نعيش الأجواء المفعمة بالروحانية بمقدم شهر رمضان المُبارك، حريٌ بنا استلهام جانبٍ من الركائز القويمة التي يقوم عليها بُنيان هذا الدين الحنيف..

ولقد أجمل رسولنا الكريم في خطبة الوداع معاني وقيم الإسلام في إيجاز بليغ، لتأتي حافلة بالدلالات المُهمة والمُقومات الرئيسية في بناء الأمة، والتي متى ما تمسَّكنا بها نستطيع اتّخاذها بوصلةً لتحديد اتجاهنا صوب قبلة التقدم..

فالخُطبة جاءت شاملة في تحديدها لعلاقة الإنسان بربه، وعلاقته بذاته ومجتمعه الإنساني، لترسم مسارًا للتحضُّر في أسمى معانيه بالدعوة إلى انتهاج ميثاق يُعد الأول لحقوق الإنسان في تاريخ البشرية، يطلق فضاءات فسيحة للحريات ما لم تتعارض مع سلامة المعتقد، وتتصادم مع حريات الآخرين، كما وضعت الخطبة الأسس القويمة لإطار المسؤولية الحقة القائمة على خدمة المجتمع والتفاني في الذود عن الأمة، وقبل ذلك كف الأذى عن الآخرين..

وقف صلى الله عليه وسلم بعد أداء حجته الأولى والأخيرة، ليُسطر تعاليم خالدة في سجل الإنسانية، ويُنير لها دروب المسير في الحياة، وسبل الفلاح في الآخرة..

كان خطابه - صلى الله عليه وسلم - جامعًا وموجهًا للبشرية جمعاء، حيث يقول " أيُّها النَّاس اسمعوا قولي، فإنّي لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بهذا الموقف".. فهذا الاستهلال يدل على شُمولية الخطاب، واستهدافه الإنسانية ككل، لأنّه يُرسي قواعد تُعد أساس التعايش السليم لبني البشر في كل الأزمان على أساس العدالة والمساواة والحقوق والواجبات.. فالخطبة العظيمة تشتمل على الكثير من العِبر والركائز الأساسية التي تنظم حياة المسلم وتكفل له الفوز في الدنيا والآخرة..

والخطبة مركزة وحافلة بالمعاني والمقاصد وما أود أن نركز عليه ثلاث ركائز أساسية وهي: حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم.

ثلاثة أمور رئيسية، وخطوط حمراء لا ينبغي تجاوزها لضمان المنعة والقوة والسؤدد. لأنّ العبث بها يتبعه الخراب والدمار.. ثلاثة مقاصد أساسية لبناء المجتمع على أسس سليمة. ومتى ما استقامت الأسس استقام البناء، وضمنا التقدم والرضا والغفران.

أولاً: حرمة الدماء فلا يجوز قتل المسلم لأخيه المسلم لأيّ سبب من الأسباب. كما لا يجوز شرعاً قتل الإنسان لأخيه الإنسان. وهنا تتجلى أهمية إرساء دولة القانون والبُعد عن شريعة الغاب والجاهلية في أشكالها المختلفة.

وقد حذرنا الرسول برؤاه المستقبلية من خطر قتل المسلمين لبعضهم البعض، فلا يجوز قتل المسلم لأخيه المسلم كما لا يجوز تكفيره. قائلاً "فلا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض، فإنّي تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده كتاب الله".

ولعل ما ينبغي التأكيد عليه هنا، ما يشوب بلاد المسلمين اليوم من فتن وصراعات وحروب وقتل على الهوية.. حيث انبثقت جماعات تدعي انتماءها إلى هذا الدين القويم والقتال تحت لوائه، بينما الدين منها براء، فالإسلام يُحرِّم سفك الدماء، كما جاء واضحاً في القرآن الكريم، وأمَّن عليه الرسول الكريم في خطبة الوداع " فدماؤكم عليكم حرام" فالقتل جريمة، فما بالك بقتل مصلين في مسجد بحزام ناسف.. فهذا أمر لا يغتفر، ولا يمت إلى الإسلام بصلة بل هي جاهلية وأدها الإسلام الحقيقي، وركز عليها الرسول في خطاب الوداع لإثمها الكبير.

ثانياً: حرمة الأموال: إن المال قوام الحياة وينبغي أن يكون تداوله منظماً لإعمار الأرض ونشر الخير بين الجميع، ولكن نهب المال والاستيلاء عليه بطرق غير مشروعة حرام ولا يجوز .. فسرقة المال العام أو الاستيلاء عليه بغير وجه حق، لا يجوز وتترتب عليه مفاسد كبيرة، وأضرار بالغة بالاقتصاد والمجتمع.

فالإنسان مستخلف في هذا المال وعليه مسؤولية صرفه في الخير والعمل الصالح.. كما تأتي أهمية هذه القاعدة الشرعية في محاربة الفساد بجميع أشكاله والمفسدين من يعبثون بالمحرمات ويخلطون الحلال بالحرام، ولا يتورعون عن الغش والخداع بُغية الكسب السريع، وقد توعد الله سبحانه وتعالى هؤلاء بالويل والثبور كما في قوله تعالى : "ويل للمطففين".

ثالثاً: حُرمة الأعراض وتأتي أهمية هذه القاعدة الذهبية في تنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة على مبدأ المساواة والحقوق والواجبات المُتبادلة بين الزوج والزوجة حرصًا على بناء الأسرة الصالحة وهي لبنة المجتمع. وينبغي المحافظة على النسيج الاجتماعي بما يحقق الألفة في المجتمع وفقاً للمقاصد الشرعية المعروفة.. والنأي عن كل ما يُهدد هذا البنيان المجتمعي ومن ذلك التعرض لأعراض النَّاس، حيث جاء النهي عن ذلك في الذكر الحكيم" ويل لكل همزة لمزة".

والخلاصة أنّ خطبة الوداع جاءت مشتملة على أسس متكاملة لتشييد بناء مجتمعي متماسك الأركان، قادر على قيادة البشرية نحو آفاق العدالة والمساواة والتقدم.

 

تعليق عبر الفيس بوك