أيديولوجيا حقوق الإنسان

ناصر الكندي

قد يتفاجأ القارئ حين يرى كلمة أيديولوجيا عندما تقرن بكلمة ناعمة مثل حقوق الإنسان، فحقوق الإنسان هي خلاصة انهيار الأيديولوجيات في القرن العشرين من الاشتراكية والرأسمالية والفاشية والنازية، بل هي ردة الفعل الطبيعية لتلك الأنظمة التي تحتكر الحقيقة في داخلها.

تسمى آيديولوجيا حقوق الإنسان بالآيديولوجيا "الرمادية" نظير الآيديولوجيا الخضراء التي ترمز للبيئة، وقد نبه الفرنسي "عمانويل تود" في كتابه اختراع أوروبا إلى هذه الآيدلوجيات الناعمة التي حلت محل الأيديولوجيات الكبرى، ودخول هذه الحقوق إلى حقل الأدلجة يأتي بسبب أنها تستغل التفاوت بين الشعوب في تفعيل حقوق الإنسان، فليست كل الشعوب مستعدة أن تتبنى حقوق الإنسان من مختلف النواحي: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحتى حقوق المرأة التي ارتبطت بالحركات النسوية منذ مطلع القرن العشرين. ويكون هذا الاستغلال بناء على اتهام بعض الأنظمة السياسية بانتهاكات حقوقية قد لا تلتفت إليها عمدا خاصة في الدول ذات الطابع الديني مثل حقوق المرأة، إذ إن هذه الحقوق ربما لا يعترف بها في الخطاب الاجتماعي السائد بتلك الدول! وكذلك هو الموضوع بخصوص النظام السياسي الذي يفترض فيه الديموقراطية بناء على المبادئ الكونية لحقوق الإنسان في حين أن بعض الدول مازالت ترزح تحت وعي الخلافة المؤجلة!.

قد يقول البعض إنّ هذه المبررات لجعل حقوق الإنسان مجرد آيديولوجيا لبعض المنتفعين السياسيين الديكتاتوريين، وقد يكون هذا صحيحا، ولكن هذا لا يمنع من أن حقوق الإنسان قد تتحول إلى آيديولوجيا حين تدخل في مجال التسييس، فالدول الكبرى وخاصة مجلس الأمن مثلا تقوم بتكبير عدسة الانتهاكات الحقوقية على أية دولة مستهدفة سياسيا، وتلوح بحقوق الإنسان كالديموقراطية وغيرها، في حين، وباستخدام المعايير المزدوجة، تسكت هذه الدول الكبرى عن كثير من الدول لمجرد المصالح الاقتصادية والسياسية بينها.

الإشكالية تكمن في أن كثيراً من هذه الحقوق نضجت في ظروف تاريخية مختلفة بالمقارنة مع ظروف الدول الأخرى، والتجربة شرط للوعي خاصة على المستوى الكلي، وكثير من الدول المستوردة لهذه الحقوق تواجه صعوبة في تبيئتها مع واقعها التاريخي التي لم تمر بنفس تلك المراحل، فحق المرأة مثلا في الزواج دون ولي يسبب ضجة عارمة على المستوى الشعبي وتبقى الدولة الراعية في حيرة أمرها أمام الشعب والمجتمع الدولي. أما على الصعيد الدولي فهو لا ينظر للحقوق بطريقة تاريخية بقدر ما يراها أنها قدر الشعوب في ضرورة الانقياد لها بمجرد أن تصادق الدول على اتفاقياتها الدولية المعنية بحقوق الإنسان.

يواجه العالم الآن بسبب هذه الازدرواجية إشكالية كبيرة حتى في الغرب، فحق حرية الرأي والتعبير مثلا قد يتلاءم مع العقل الغربي في نقد الأديان، ولكنه يخفق بامتياز عند تطبيقه على المهاجرين ذوي الأصول الدينية الاسلامية، وحادثة شارلي ايبدو دليل كبير على أن حقوق الإنسان تتحول إلى آيديولوجيا إذا لم تراع الفروقات العقلية التاريخية بين الشعوب، والاندماج بحسب كثير من المراقبين ورؤساء الدول الأوروبية يقرون باعترافهم بفشله، وذلك نتيجة للتجارب التي تمر بها دول العالم الآن في الصراع على الانتماءات بدلاً من الآيدولوجيات.

تعليق عبر الفيس بوك