اللحظة التي لن تعود

مريم العدوية

"كنتُ أقرأ كل يوم قبل النوم، لقد كانت القراءة عادة مقدسة لي، بل كانت تبدو وكأنها من بديهيات روتيني اليومي. ولكن ومع التقدم في العمر والزواج وما يليه من متطلبات بالإضافة إلى أعباء الوظيفة أصبحت القراءة بالنسبة لي ترفاً، أصبحت القراءة حقا تشكل بالنسبة إليّ هاجساً بل حلماً قصيّا، كل ما أتمناه فسحة من الوقت وبعض من الرواق والهدوء في النفس وكتاب آوي إليه!".

أذكر حديث إحدى معلماتي ذلك، الذي قد لا أكون نقلته للتو بحذافيره ولكن مضمونه هكذا كان يبدو. أتذكره الآن بينما أمر بذات الوتيرة وكأن الحياة تعيد تفاصيلها وأحداثها بتناسخ أقرب للبديهية!

"كثيرون هم كُتّاب القصة القصيرة والشعراء الذين التقينا بهم بينما كانوا على مقاعد الدراسة الجامعيّة ومن بعدها فقدناهم، حيث حالت بينهم وبين القلم الكثير من المشاغل ومتطلبات الحياة والعمل ...".

وذلك حديث آخر أذكره لأحد أدباء السلطنة ساقه لنا يومها في ورشة للقصة القصيرة أقيمت على هامش إحدى المسابقات الأدبية، وكان الرهان في داخلنا كقصاص مبتدئين أن نبقى صامدين شاحذين الأقلام ولا نسمح للحياة بأن تنفينا مبكراً، ولكن وللأسف وكما يبدو ها نحن كالدومينو نتساقط تباعاً مهزومين أمام الأيام المكتنزة بالكثير والتي ترفض أن تقرضنا بعض الوقت لنجد أنفسنا على الأقل!

"...هذه فرصتُكِ الذهبية، سيأتي عليك وقت تتمنين لو تعود بعض الساعات للوراء لتقومي بعمل محبب إلى نفسك وحينها لن تجدي لذلك سبيلا".

تعيد إليّ ذاكرتي هذه الأحاديث التي كانت حقا نصائح بجمل وأبدو الشقيّة التي تعلمت الدرس من نفسها عِوضًا عن السعادة التي كانت ستملكني لو تعلمت هذه الدروس من الآخرين الذين لم ينفكوا يقدمونها إليّ في أطباق من ذهب.

"أيّها الحاضر تحملنا قليلا، فلسنا

سوى عابري سبيل ثقلاء الظل"

أجدنا ثقلاء جداً بحق كما أسلف محمود درويش ونحن نعتب على الزمن ونفقد الكثير من اللحظات بالتسويف والندم.

ماذا يمكننا أن نقول لزمن لو توقف أمامنا ماثلا لنقاضيه أو بالأحرى ليقاضينا؟!

هل كنا سنطلب من أن يمشي الهوينى أو يقف مثلاً. أو يقف على لحظة ما تمنيناها لو تعود تكرارًا ومراراً؛ لأننا بها لمسنا السماء غبطة وفرحاً ؟

إننا حقا بحاجة إلى أن نقف طالما أن وقوف الزمن استحالة؛ لنواجه أنفسنا ونأوي إلينا، علنا نجدنا بعد عناء فقد وغياب، وما أشد غربة الروح على المرء!

بكل تأكيد سنجد أنفسنا عندما ننغمس في عمل محبب أو هواية أو نشاط نجد أروحنا منسجمة معه، ولكن ومن جانب آخر هذا لا يعني أن على الزمن الرجوع القهقري، وإنما أن نخلق لأنفسنا أنشطة وملاذا يتناسب على الدوام مع اختلاف الزمن والمكان بل واختلاف مواقعنا من إعراب أبجدية الحياة.

أيّها الأموات تحت عجلات السيّارات الفارّة نحو المجهول، والمغيبون تحت أكوام من كماليات الحياة وزخرفتها الزائفة، يا من بذلتم كل شيء من أجل شيء واحد دفعتموه سلفاً وأنتم عميان.. اللحظة لن تعود!

إننا نكدح صبح مساء من أجل سعادة ألبسناها الكثير من الكذب والبهرجة الخادعة حتى فقدناها وفقدنا معها الكثير من اللحظات التي كانت تسكنها. أفلم يحن الوقت لنستفيق ونتأمل اللحظات وهي تسكننا وتهبنا كل ما في عمقها من فرح وحياة؟

بل وحتى نحن يغيرنا الوقت ولا نعود كما كنا، فعليك بالحظة، اغتنمها، تمسك بها، أسجنها حياة وعشها بكل تفاصيلها، وإيّاك وأن تعتقد بأنك ستملك يوما مثيلها، فلو أنّ ذلك حدث يوماً ما يدريك بأنك ستكون أهلاً لها ! أختبر لحظات الحياة مع الأطفال الذين يتغير كل شيء فيهم مع الوقت حتى أرواحهم تكف عن التحليق والحلم، وكأنها قيّدت! هكذا فجأة يصبحون أكبر ويتغير داخلهم تجاه الحياة وتبدو لهم اللحظات التي كانت تسعدهم طيفاً يسعدهم ذكره ويتمنون عودته ولا يعود!

"الحياة مثل النهر لا تستطيع أن تلمس نفس الماء (مرتين)؛ لأنّ المياه المتدفقة التي جرت لن تعود مجدداً أبداً، لذا استمتع بكل لحظة في الحياة، فكل إنسان وحدث سيكون يوماً ما مجرد ذكرى ..."

لحظة ما دار هذا المونولوج بيني وبيني... لحظة ما لن تعود!

تعليق عبر الفيس بوك