تاريخنا ليس مقدسا

صالح البلوشي

من يقرأ الكتابات التاريخية المعاصرة -أو جلها- التي تبحث في التاريخ الإسلامي؛ يُلاحظ أنها تفتقد إلى التحليل النقدي، وأقصد بالنقدي استخدام المناهج البحثية النقدية الحديثة في البحث، خاصة الفترة التي تلت وفاة النبي محمد عليه الصلاة والسلام وانتقال السلطة إلى الخلفاء الأربعة، إذ إنّها تشكل أخطر الفترات في التاريخ الإسلامي وأكثرها تأثيرًا على واقعنا المُعاصر، ومنها انبثقت التيارات المذهبية الإسلامية والفرق الكلامية التي تشكل اليوم التيارات الرئيسية في الفكر الإسلامي. ومن المؤسف أنّ جل هذه الدراسات وخاصة تلك التي تناقش تلك الحقبة الزمنية المهمة تغلب عليها النزعة التبجيلية والرؤية التقديسية. وكذلك نُسِجَت سطورها بما يحفظ الهالة الأسطورية لتلك الفترة، وبما يتوافق مع المتخيل الجمعي الديني ذي النزعة الفضائلية/ المناقبية الغارقة في عالم المقدس. كما تبدو التحيزات الأيديولوجية/المذهبية واضحة جدًا عليها، حتى إنّ القارئ يستطيع التوصل بكل سهولة إلى الفرق بين رؤية الطبري ذات الرؤية السنية -مثلا- للأحداث التي جرت بعد وفاة الرسول، وبين نظرة اليعقوبي ذات النزعة الشيعية إليها. والفرق بينهما وبين الرؤية المعتزلية والإباضية. جميع ذلك - وأسباب أخرى- تدعونا إلى عدم الاطمئنان إلى مُعظم ما نقله هؤلاء من أخبار حول تلك الأحداث، حتى لو أخضعنا تلك الروايات إلى منهج أهل الحديث الذي يتمثل في التحاكم إلى أهل الجرح والتعديل، لأسباب متعددة منها: أنه يخضع أيضاً للتصنيف المذهبي والهوى الأيديولوجي. ولكن بالمقابل هناك بحوث أخرى -على ندرتها- استخدمت المنهج الشكي الديكارتي في قراءة التاريخ الإسلامي، واستطاعت أن تقدم قراءات خارجة عن السياق التبجيلي والتقديسي، مثل كتابات الدكتور طه حسين في إسلامياته، وخاصة كتابه "الفتنة الكبرى" بجزئيه، وكتابه "الشيخان"، وغيرها، وقد عَبّر عن هذا المنهج في مقدمة كتابه "الشيخان" حيث قال: "وأنا بعد ذلك أشك أعظم الشك فيما روي عن هذه الأحداث، وأكاد أقطع بأن ما كتب الفقهاء من تاريخ هذين الإمامين العظيمين ومن تاريخ العصر القصير الذي وليا فيه أمور المسلمين أشبه بالقصص منه بتسجيل حقائق الأحداث التي كانت في أيامهما". وكثير من تلك القصص ذات الطابع الغرائبي التي تحلق في فضاء اللامعقول التي تحدث عنها الدكتور طه حسين؛ تحولت مع مرور السنوات وتعاقب الدهور إلى حقائق ثابتة يتداولها العلماء والمؤرخون فضلاً عن العامة وكأنها من مسلمات العقيدة وأصول الإيمان التي لا يجب التشكيك فيها فضلاً عن التساؤل حول صحتها من الناحية التاريخية، مثل حكاية الحمامة ونسيج العنكبوت على الغار الذي لجأ فيه الرسول وصاحبه أبي بكر بعد خروجهما من مكة في طريقهما إلى يثرب. وأيضًا كثير من تفاصيل حادثة الإسراء، والحادثة المعروفة بشق صدر النبي محمد بواسطة الملائكة، وغير ذلك من أحداث يرى كثير من الباحثين أنّها لا تصمد طويلا أمام منهج النقد العلمي. ومن الدراسات الجيدة التي قرأتها مؤخرًا في هذا المجال أشير إلى كتاب صدر للباحث التونسي محمد عبد الوهاب يوسفي يحمل عنوان (صورة عثمان وعلي في صحيحي البخاري ومسلم.. قراءة في الجذور والخصائص والدلالات). والكتاب يعتبر من الدراسات النادرة التي تصدر في العالم العربي وتبحث في تلك الحقبة الزمانية المهمة جدًا في التاريخ الإسلامي، أقصد هنا فترة خلافة عثمان وعلي؛ لأنّها كانت حافلة بالأحداث والتطورات التي لا تزال آثارها وانعكاساتها على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي موجودة حتى اليوم، وفترة تاريخية بهذه الأهمية لا شك أنها بحاجة إلى قراءة نقدية تحليلية تبتعد عن لغة التقديس والتبجيل والتبرير التي تحفل بها معظم الدراسات الإسلامية. وقد حاول الكاتب في البحث الابتعاد قدر الإمكان عن الروايات التي تحفل بها الذاكرة الشعبية لتلك الفترة، ونقدها، والكشف عن المسكوت عنه؛ وخاصة التي تتصل بالهوى الأيديولوجي، وما أكثرها، من خلال تفكيك البنى التي تقوم عليها، سواء أكانت آلياتها الفكرية أو مرجعياتها المذهبية. وقد توصل الكاتب في دراسته إلى أنّ "نصوص صحيحي البخاري ومسلم المكونة لسيرة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب نصوص لغوية لا تنتمي لتاريخية الرجلين؛ وإنما مرتبطة بثقافة محددة أنتجتها ظروف مختلفة؛ وهذه الثقافة خضعت لثنائية التأثر والتأثير، فكانت صورتاهما وليدتي تصورات نابعة منها، وبدت مدلولاتها ذات بنية إيديولوجية ومتخيلة متصلة بمكانها وزمانها وواقعها". بمعنى أن البخاري ومسلم لم يذكرا سيرة عثمان وعلي كتاريخ بشر لهم وظائف بشرية معينة منها معاصرتهما للرسول وتوليتهما الخلافة بعد وفاته، ولكن كسيرة رجلين ينتميان إلى منظومة مقدسة لا تخضع للمنطق البشري والمنهج النقدي، لأن ذلك يُعتبر نقداً لتلك المنظومة واستهانة بها، مما يعتبره كثيرون من سدنة تلك المنظومة بأنه على حد الكفر بالله، لأن نقدها -حسب تعبيرهم- هو نقد للنبي المؤسس لتلك المنظومة. ولا يخفى أن ذلك كله يخالف ليس المنهج العلمي فقط، وإنما تعاليم شريعة السماء نفسها، ومن المؤسف أن جل الكتابات المعاصرة عن الخلافة الراشدة تنطلق من القراءات الفوق بشرية، باستثناء بعض القراءات النقدية الجادة التي التزمت بمنهج النقد العلمي، وأشير هنا بدرجة خاصة إلى كتاب "شدو الربابة في أحوال مجتمع الصحابة" للأستاذ خليل عبد الكريم، وإسلاميات طه حسين وخاصة كتابه "الفتنة الكبرى" بجزئيه وغيرها. وهناك من يحاول نقد القراءات التاريخية بمنهج علمي، ولكن؛ لصالح اتجاه مذهبي آخر، كما يلاحظ ذلك في بعض الكتابات النقدية التاريخية ذات الاتجاه الإسلامي الأيديولوجي، فرغم أنها أسهمت في الكشف عن كثيرٍ من الجوانب المخفية والمسكوت عنها في التاريخ الإسلامي، إلا أنها حسب متابعتي لكثير منها لا تنطلق في ذلك من منهج علمي خدمة للعلم والمنهج النقدي، وإنما رغبة في الانتصار للمنظومة اللاهوتية التي ينتمي إليها مؤلفوها ويدافعون عنها بكل قوة، ومن أدلة ذلك أن كثيرا من هؤلاء أنفسهم يقفون موقفاً سلبياً جدًا من الكتابات النقدية التي تُمارس بحق منظوماتهم اللاهوتية، ويعتبرونها عداءً للإسلام وتشكل خطرًا عليه. وأما القراءات النقدية الجادة فإنها تلك التي تلتزم بالرؤية النقدية الصارمة بحق جميع المنظومات اللاهوتية بمسمياتها المذهبية المختلفة، بقصد إزاحة هيمنة القداسة والقراءة التبجيلية عن تاريخها، وتحريره من الخرافات والأساطير وهيمنة اللامعقول.

تعليق عبر الفيس بوك