الرهان الفادح على التراث

رحاب أبو هوشر

إن أمكننا تعريف التراث بشكل عام، فإنّه كل ما تراكم من الماضي، وتؤثر امتداداته في الحاضر. فهل ينطبق هذا التعريف على قوة حضور وتأثير التراث في الحياة العربية، مجتمعات وأفرادا؟ تقام المهرجانات التراثية، بكثرة وباستمرار، بحماس غير مفهوم، كما لو أن المجتمعات العربية قطعت مسافات هائلة، في انتقالها من الماضي إلى الحاضر، فصلتها عن موروثها الفكري والاجتماعي والثقافي وحتى المعيشي، بعد هضمها له واستلهامه بما يمنحها هوية خاصة، وتضاهي أمم الأرض الأخرى في انتسابها لحداثة العصر، فما الضير من مواسم تحيي ذاكرتها الغافية! بل إن تلك المواسم تصبح ضرورة ثقافية واجتماعية للحفاظ على الإرث، والتذكير بالجذور الضاربة في ذلك الماضي البعيد! ولكن هل نحن حقيقة منفصلون عن تراثنا؟ وهل نقيم بالمفهوم الحقيقي والعميق، في الحداثة ومفاهيم العصر، كي يستبد بنا الحنين، ويأخذنا هذا الولع المحموم بـ "أيام زمان".

يحق لأمم وشعوب أخرى أن تخصص جزءًا من حراكها الثقافي والفني للاحتفال بتراثها وفلكلورها الشعبي، القابع في مكانه المخصص له في الماضي، بينما حراك مجتمعاتها لم يتوقف، لتتبوأ مكانها في حياة مدنية حديثة، وتساهم كذلك في صياغة المستقبل. الهند مثلاً من أعظم النماذج الدالة على استمرارية الماضي، بوصفه قنديلا يضيء الطريق إلى المستقبل، لا بوصفه الطريق والمستقبل في آن كحال مجتمعاتنا العربية. في الهند إرث فكري وفلسفي وفني عظيم، يجاور نهضة علمية وصناعية وفكرية وثقافية، يستمد قوته وتأثيره وجاذبيته، من استلهام المجتمع لمفاهيمه الأساسية للدخول في عصر الحداثة. كلاسيكيات الأدب الأوروبي، شكلت نواة التنوير المعرفي، وكانت المدماك الذي تأسس عليه الأدب الحديث، وما تفرع عنه من مدارس وتيارات، أفضت إلى تغيير ثقافي واجتماعي هائل، قاد تلك المجتمعات إلى حيث هي الآن. تلك الكلاسيكيات انتهت فعالية دورها بانتهاء ظروف نشأتها، وحظيت بمكانتها اللائقة بها، كموروث محفوظ، يستدعى للتكريم والاحتفال وإنعاش الذاكرة، وبوصفها رموزاً تاريخية.

أين نحن من تلك النماذج في علاقتنا بالتراث والفلكلور؟ لم نغلق الأبواب بعد على الماضي، لنقول إننا نستعيد التراث، بل هي اليوم مشرعة تماماً على الماضي، على أسوأ ما كان فيه،. لا زالت مجتمعاتنا تعيش تحت وطأة الماضي الثقيلة، ولا زال الماضي يعبث بمفاصل حياتنا بحيوية فائقة، كما لو أننا نقيم هناك، خارج شروط العصر والزمان. ومأساتنا في ذروتها، حيث لم نكتف بعدم تحقيق تقدم كبير نحو تبني مفاهيم الحداثة والحياة المدنية، بل إن مجتمعاتنا العربية تعاني نكوصاً وردة جسيمة، نحو مزيد من الذهاب إلى الماضي والانغلاق، واستبدال الوعي العقلي بالوعي الغرائزي البدائي. في هذا الإطار ربما، يمكنني فك أسرار ذلك الاهتمام بمهرجانات للتراث والفلكلور!

ماضويون نحن لا أكثر. الهروب نحو الماضي أنجع سلاح نمتلكه، بل هو السلاح الوحيد، حيث المشهد الناجز المكتمل(من وجهة نظرنا)، مشهد يحقق لوعينا الجمعي المذعور إحساسًا بالأمان، في مواجهة أسئلة الحاضر التي لا نقوى على استفزازاتها، واستحقاقات المستقبل التي لا قبل لنا بها. هناك في الماضي، حيث كنا وكانت أمجادنا. في المشهد الفلكلوري لن يحضر آخر سوانا، يا لها من متعة، نغيب فيها وننسى مرارات هزيمتنا الحضارية، فالنموذج المغاير لن يكون جزءًا من مشهدنا الفلكلوري، ليعكر صفو أيامنا!.

في الموسيقى، لا زلنا أميون، بوصفها لغة كونية، تسمو بالمشاعر وتهذبها، وتفتح آفاقا للفكر والمخيلة. نحتفل بموسيقانا الفلكلورية، التي أصبحت اليوم عنوانا فنيا بارزا، في الكثير مما ينتج، لمداراة فشلنا وإفلاسنا الإبداعي، نستمع لها وننتشي، نستدعي بها مخزونا طازجا من الشعور الغزائزي، والبهجة البدائية. لا يطربنا ويهز أعطافنا إلا لحن شعبي مغرق في بدائية نغماته وأدواته الموسيقية. وهذا لا علاقة له بالحنين، وإنما باستقرار ذائقتنا وجمودها، واستسهال الهروب إلى الخلف.

وإن كنا مرغمين على الحداثة في بعض تجلياتها، إلا أننا قادرون على إلباسها أفكارنا ومعتقداتنا، وبدلا من التعاطي مع الإنترنت مثلا باعتباره كنزا معلوماتيا، يطور قدراتنا في البحث العلمي، ويضعنا في مهب التجارب الإنسانية الإبداعية، فقد أدخلناه قسرا إلى منازل التراث والفكلور، أدرنا من خلاله معارك داحس والغبراء، وانتقينا من موروثنا القيمي، كل ما يعززالغيبوبة الفكرية، وصار الإنترنت أداة تخريب فكري واجتماعي وثقافي، بقوة الجهل العمياء.

بالتأكيد إن التراث ذخيرة لكل الأمم، ولكن ليس كل ما ينتمي للتراث والفلكلور جدير بالمهابة. لا يمكن أن تكون صفرة الأوراق هي الميزة التي تستند إليها قيمة مخطوط أو كتاب، وتضفي عليه القداسة، إن لم تكن القيمة تكمن في المحتوى الفكري والإبداعي، وليست كل أغنية فلكلورية عظيمة، حتى وإن اتسمت كلماتها بالسذاجة أو بالمضمون المتخلف. مشكلتنا في العلاقة مع التراث، في عدم خضوعه للمراجعة والنقد، وفي قدسية تضفيها عليه ثقافتنا الزاخرة بالمقدسات، قدسية تطرده من شرطه التاريخي، مثل سجان يتخبط بأصفاده مع الأسير.

تعليق عبر الفيس بوك