فلسفة التحدي والاستجابة

إيمان بنت الصافي الحريبي

يقول عالم التاريخ الألماني شبلنجر إن تقدم الأمم والحضارات واستمرارها مرهون بمدى قدرتها على الاستجابة للتحديات التي تواجهها في مسيرة تطورها، وأنّ إخفاقها في تلمّسها مواجهة تلك التحديات يؤدي إلى تضعضع وتلاشي حضارة تلك الأمم والشعوب.

وساق شبلنجر العديد من الأمثلة في هذا الإطار ما يؤكد صحة هذه النظرية بداية من بدء الحضارات البشرية والأمم الغابرة وحتى يومنا المعاصر؛ حيث تناول الحضارة الرومانية محاولا فهم أسباب أفولها بالرغم مما وصلت إليه من قوة وعظمة ورقي، وخلص إلى أنّ إخفاقها في مواجهة التحديات والاستجابة لها كان سببا رئيسا لهبوطها وتلاشيها، ولم يغفل في هذا السياق أنّ أحد أهم أسباب ذلك التلاشي ضعف استجابة الأمّة من خلال إخفاقها في نقل الجيل الفاتح المتمرس في نقل القيم الروحية والطباع العملية إلى الجيل اللاحق مما ساهم بشكل لافت في تلاشي وأفول تلك الحضارة.

إنّ سر تطور الأمم يكمن في الروح الوطنية والخصوصيّة القوميّة لكل شعب من الشعوب، وكما قال جوستاف لوبون إن وراء كل تطور تشهده أمّة من الأمم قاسم مشترك هو(روحها) وهمّة أبنائها واطلق عليها الطابع القومي للشعوب وفي ذات الإطار يجادل مالك بن نبي بأنّ هذه الروح الوطنية هي نتاج لعوامل كامنة تميز كل أمة عن غيرها وتستمد من التراث والفلكور والموروث الحضاري الأصيل والسياق السسيولوجي المحيط والتي تشكل في نهاية المطاف الطاقة الدافعة والذراع الرافعة لتطور الأمة والمجتمع معًا.

وعند تحليل ما ذهب إليه الفكر من رواد الفكر وعلماء الاجتماع مما سبق تناوله يمكن أن يضاف إليه عنصر محوري لاغنى لتطور أمة من الأمم إلا بتوافره وهو وجود القيادة الكارزمية المستنيرة التي تتلمس هذه الروح وتدعمها وتخلقها وتقوي عودها وتستلهم من هذه الروح الأهداف الوطنية الكبرى للوطن والمواطن وتقودهم بمضاء وعزيمة لتحقيق الغايات الوطنية الكبرى، ويدلل العقل ويتواتر عليه النقل من خلال تجارب الأمم والشعوب.

فمثالا لاحصرًا ففي الحروب الكبرى من القرن المنصرم حيث استحالت عدد من الدول من القوى الكبرى إلى أثر بعد عين (ألمانيا وكوريا واليابان) بعد ما دمرتها وأنهكتها الحروب المدمرة إلا أنّها نهضت ونفضت غبار الحروب عن كاهلها بسواعد أبنائها، وساهم في تلك النهضة الشعب بكافة أطيافه فكان فيها الفلاح والطبيب والشاعر والفنان والمعلم من الذين عملوا بروح واحدة وبصبر وتؤدة مستلهمين هذه الروح من ثقافة وخصوبة تراثهم العريق وحبهم وإخلاصهم لا وطانهم، و- لاجدال - في أنّ السر الذي دفع بهذه الدول إلى مصاف الدول الصناعية هي هذه الروح التي نتحدث عنها في هذا المقال، إذن فالمسالة ليست صفوة العقول والمخططين فقط وإنّما هي روح الشعب وهمته وتكاتفه فهي المعيار في نهضة الأوطان. وإذا كان الحديث عن ترهل هنا وهناك فالحلول موجودة بين أسطر التاريخ.

صحيح أنّ العالم تغيّر كثيراً، إلا أنّ السماء والأرض لم تتبدلا، والشعب هو نفسه ذات الشعب الذي يقيم على شواطئ البحر، وسفوح الجبال، وفي الواحات والبوادي، فهل يجوز لجيل ما أن يعيش حياة الذل والبؤس، فيما استطاع جيل آخر قبله أن يجترح المعجزات"، وهنا تبلورت فلسفة التحدي والاستجابة فالرؤية السامية لمولانا جلالة السلطان المعظم - أبقاه الله- واستجابت النهضة العمانية للتحديات والصعوبات والمعوقات وبحمد لله نجحت في ذلك وفق الفكر السامي وكان ذلك بكل سلاسة "كالذي يقف على ساحل الشاطئ ويرى الأمواج كيف تسلم بعضها بعضًا فلا موجة ترجع إلى الوراء ولا موجة تصل إلى الساحل" وكل ذلك يتم في إطار من الرؤية المستقبلية الواعية والمعتمدة على دراسات رصينة وتأخذ في عين الاعتبار المناخ المحيط بتلك العملية من تشريع وفي سياق فلسفة لقيادة واضحة واعية، وتعمل على أسس سليمة تتجنب حصول الفجوات أو الارتباكات التي قد تنجم جراء الانتقال غير المخطط، الأمر الذي قد تكون له انعكاسات على المكتسبات الحضارية والتنموية التي تهدف إلى الحفاظ على هذه المكتسبات الحاضرة، وتسليمها سليمة إلى الأجيال القادمة فلا "يعتقد البعض أنه يمشي دون تخطيط وبدون دراسات وبدون تهيئة المناخ وإذا لم يكن في المجتمع فلسفة معينة وقيادة واضحة واعية وقيادة تعمل على أسس سليمة تحصل الارتباكات في هذه المجالات". لذلك يؤكد جلالته لدى توليه مقاليد الحكم "إنّكم سوف مسؤولين أمام الأجيال القادمة، وهو يخاطب من تسلم المسؤولية في بداية النهضة، وفق فلسفة راقية للمسؤولية والمحاسبة والمراجعة تعتمد في يكون هذا التسليم جيدا والاستلام سليمًا وكذا أن يكون الجيل الذي يتسلم مُعدًا إعدادًا كاملا حتى يتسلّم المسؤولية وبدون ضعضعة وبدون الرجوع إلى الوراء".

 

 

تعليق عبر الفيس بوك