جرأة نقدية أم مراوغة وإنكار؟!

رحاب أبو هوشر

في سياق حشود المشكلات، التي يعاني منها العالم العربي، سياسية واجتماعية وثقافية، يأتي نقد مشروع الحداثة العربي، كواحد من الضرورات الملحة. وهو ضرورة، لانه إن وجد، فإنما يؤسس إلى فكر نقدي جديد ومختلف. فالمثقفون العرب، وعلى اختلاف مرجعياتهم الفكرية النظرية، كانوا من حيث الشكل مفكرين تقدميين وعقلانيين وتحرريين، أما في الجوهر فقد كانوا لاهوتيين تقليديين، عابدين لمذهب معين، على حد تعبير أحد المفكرين اللبنانيين، فتحولت كل جماعة ثقافية الى الاصطفاف وراء زعيم معين، عالمي او محلي. ما أدى الى ضياع الفواصل بين الاصولي والحداثي، وبين الطائفي والمقاوم للغرب، وبين الاشتراكي أو الليبرالي والقبلي. الوضع العربي الراهن يقدم شهادة أوفى حول الرجوع لينابيع الطائفية لدى "مفكرين ومبدعين" "مثقفين ومفكرين" باختلاف طوائفهم!

حاجتنا كانت ملحة دائما لممارسة نقد التناقضات والتحديات، واليوم هي ضرورة مصيرية. بعيدًا عن المستوى السياسي، لا بد من مقاربة أزماتنا الثقافية والاجتماعية بجرأة نقدية رصينة على أوسع نطاق، والكف عن "الطبطبة" والمراوغة والإنكار. ولا يمكن في حالتنا العربية تبرئة أحد، فالمآزق والخراب، الذي آلت اليه أحوالنا، هو مِن صنعنا نحن أولا، أما التحالف الغربي والقوى الإقليمية الطامحة، بمصالحهم وأغراضهم في منطقتنا العربية، فتأتي بالدرجة الثانية من حيث المسؤولية. لأن من حقائق الاشياء: ان كل أمة مسؤولة عن تسامح فئاتها، وعن لغة التفاهم بين أفرادها وحماية مصالحها.

كتب الكثير عن الطائفية، حتى أنّ طائفيين في الممارسة كتبوا نظريا ضدها! وأنتجت أفلام عديدة تناولتها كأزمة مدمرة للمجتمعات، لا سيما من قبل لبنانيين، بحكم معاناتهم المريرة من حرب أهلية طويلة، كانت الطائفية عنوانها المباشر، ومن أبرز تلك الأفلام وأكثرها جرأة، فيلمان وثائقيان للمخرج اللبناني "هادي زكاك"، يرصدان تفتت بنية الدولة اللبنانية في بنية طوائفها، الأول بعنوان "أصداء سنية" والثاني بعنوان "أصداء شيعية". في كلا الفيلمين، يدحض المخرج المهموم بتفسخ وطنه، كذبة الطائفية، بكذبة أشد مضاضة وقسوة، وهي تفتت الطائفة ذاتها وانقسامها على نفسها، لكن الحقيقة كالعادة في مكان آخر، حقيقة زعماء يتنافسون على مصالحهم ونفوذهم، باستغلال الطائفة كأداة لذلك، والحرص على الإبقاء على أعلى مستوى من التناقض الوهمي بين فئات متشابهة في همومها وآلامها، يقتات الزعماء على فقرها وضعفها وخوفها.

بحر من الفتن الطائفية، والحروب الأهلية، والصراعات السياسية، يجتاح البلاد والأمة. اليوم نتذكر ملوك الطوائف، وتستدعى أمثولة داحس والغبراء الخالدة منذ الجاهلية، لا فرق جوهري عن حالنا الحاضر، وكأن الزمن معطل والتاريخ أبكم، فكم مملكة للطوائف سيصبح لدينا إن استمر هذا الشحن والتشظي؟ وكم عبثا سنشهد على غرار داحس والغبراء، إن لم يتحقق جهد نقدي حقيقي، يخرج الأمة كلها، من مأزقها الوجودي؟


وسط كل هذا الدمار والخراب، والعنف الداخلي المتزايد، تتضاعف الحاجة الى مشروع ينقذ الأمة، بالعقل التواصلي التفاعلي، والحوار الايجابي، والحسّ النقدي، والمسؤولية الأخلاقية، كمفاهيم يعوّل عليها، لتحقيق فهم عقلاني ومنطقي للمجتمع العربي. بحيث تسود لغة الحوار والتسامح والنقد البناء، بدلا من روح التعصب والتكفير والإقصاء. هذا ما يقترحه المفكر اللبناني علي حرب، في كتابه تواطؤ الأضداد: الآلهة الجدد وخراب العالم. ويقتضى التساؤل عن الإمكانية التي توفرها الأضداد للحل او للنقد او للخلاص، عند تواطئها، سيما اذا جرى تتويجها آلهة جديدة فوق حاضر من خراب، كي تصنع مستقبل الهباء.

كان اللبنانيون أول مختبر لحروب الطوائف المدمرة، لكن لا يبدو إنهم الوحيدون أو الأخيرون في هذا العالم العربي، كما لا يبدو أنّ اللبنانيين ذاتهم تعلموا شيئا من درسهم الأول!

أن نكتفي بالمتابعة لما يحدث وترقب النتائج فقط، ليس إلا دلالة على فقدان الوعي بالخطر المحدق بالجميع، بلادا وشعوبا، وعلى القبول بمساكنة عبث تنضح به النهارات المنهكة، المنتهكة بالموت والدم والجوع واللاأمل، والتي تدور حول نفسها في مكانها. ينهكها الدوران والمراوحة في فضاء مدجج بمخاطر أكبر تلوح، مساحته الأفقية تضمر، تتآكل وتتفتت، وتتهيأ لصدامات في كل الاتجاهات، وينغلق أفقه بشراسة سقوف بنيت فوق رؤوس أحلامنا حتى لا تنهض من سباتها. وفي هذا الدوران المريع، تنخسف أرض المكان بسرعة دراماتيكية، لتصبح حفرة، فخا قد يصطاد الواقفين على أرض لم تكن رخوة كما هي اليوم.

قاس وموجع وسلبي للغاية هذا الترقب والقلق، ولفظاظة واقعيته وشراستها، لن نجد فيه مساحة لأسى نبيل أو حزن شفيف، إذ أنه ترقب على حدود مادية حرجة، تفصل بين أن نكون أو أن ننتهي، وأن يبقى لهذه الشعوب وجودها وهويتها بين شعوب الأرض، أو أن تذهب بها نار التناحر وإعادة رسم الخرائط، التي تعمل بجهد متسارع، على مسح ذاكرتها التاريخية والحضارية والإنسانية، ومسخ كياناتها لتخليق مجاميع من البشر تائهة في معاقل القتل والثأر، أكثر استلابا ورعبا ورغبة بالفناء.

تعليق عبر الفيس بوك