.. لكنني سمعت ذلك!!

المعتصم البوسعيدي

تقول القصة: في عهد كانت تسيطر عليه عدة عصابات بمرسيليا استطاعت بنفوذها أن تمتلك كل شيء حتى الشرطة والقضاء في ثلاثينيات القرن العشرين، قام أحد زعـماء هذه العصابات بقتل أحد خصومه فألقي القبض عليه، وفي محاكمته جاء شاهد الإدانة الوحيد ليقف أمام القاضي الذي حصل في المساء فقط على رشوة ضخمة لتبرئة زعيم العصابة، سأل القاضي الشاهد في صرامة: ماذا حدث بالضبط؟ أجابه الشاهد في هدوء واثق: كنت أجلس في مخزن المتجر في الساعة الثانية بعد منتصف الليل والسيد (فيران) صاحب المتجر بالخارج، ثم سمعت طلقًا ناريًا وعندما هرعت من المخزن إلى المتجر وجدت السيد (فيران) جثة هامدة والدماء تنزف من ثقب بين عينيه الجامدتين الجاحظتين والسيد (ديبوا) يقف أمامه ومسدسه في قبضته والدخان يتصاعد من فوهته ولم يكن هناك سواه، سأله القاضي في صرامة مخيفة: هل رأيته وهو يطلق النار على رئيسك؟ أجابه الشاهد في بساطة: كلا ولكن مظهره يؤكد أنه الفاعل، فلم يكد يراني حتى رمقني بنظرة قاسية ودسّ المسدس في جيبه وغادر المكان في هدوء وهو يتصور أني لن أجرؤ على إدانته والشهادة ضده، عاد القاضي يسأله في صرامة: هل رأيته يطلق النار؟ أجابه الشاهد في حيرة: بل سمعت صوت الطلق الناري، فقاطعه القاضي المرتشي في حزم: هذا لا يُعد دليلاً كافيًا، ثم ضرب بمطرقته الخشبية مستطردًا بصرامة: فلينصرف الشاهد، وهنا أحتقن وجه الشاهد ونهض من مقعد الشهادة وأدار ظهره للقاضي وهتف بصوت مرتفع: يا لك من قاض غبي وأحمق وتشبه الخنازير في عقلك ومظهرك، فصاح القاضي في مزيج من الغضب والذهول والاستنكار: كيف تجرؤ على إهانة هيئة المحكمة أيّها الرجل؟ إنني أحكم عليك، ولم يكاد يكمل حتى استدار إليه الشاهد وقاطعة بغتة: هل رأيتني أشتمك يا سيدي؟ رد القاضي في غضب: لقد سمعتك وسمعك الجميع، فقاطعه الشاهد مبتسمًا في خبث: هذا ليس دليلا كافيا يا سيدي، ضجت القاعة بالضحك وأدرك الجميع مغزى المفارقة، ووجد القاضي نفسه في مأزق يهدد سمعته ومستقبله فلم يجد بد إلا أن يستسلم لرغبة الرأي العام، ويحكم على زعـيم العصابة بالإعـدام، ويقال إنه كان أول حكم إعـدام عـلى أحـد زعـماء مافيا مرسيليا.

تنفذ وزارة الشؤون الرياضية برامج متنوعة في الصيف لكل أطياف المجتمع بشكل عام والشباب بشكل خاص، وهي تلعب دورها المحوري ضمن نطاق عريض من الأهداف من خلال شموليتها لمجالات رياضية وثقافية واجتماعية لنشر وعي مجتمعي ليس أوله الصحة واستثمار الوقت وليس آخره استكشاف المواهب وصقل القدرات وما بينهما من سطور شتى، ولم تغفل الوزارة مسؤولياتها للبنى التحتية ومنظورها في التقييم والمتابعة وهي ستكشف النقاب أو ستكون كشفت النقاب فعليًا عند كتابة هذا المقال عن برامجها الصيفية والتي أعلنت أنها ستضيف برنامج جديد ضمن برامجها المكونة من: صيف الرياضة، معسكرات شباب الأندية، برنامج شبابي، وشجع فريقك.

لن أمثل دور الشاهد في القصة التي بدأت بها حديثي ولا أحب أن أكون قاضيًا، بل أنا معجب بخطط الوزارة وبرامجها التي تتغلل في النسيج الاجتماعي للمواطن والمقيم على حد سواء، لكنني أفتش دائمًا عن المعيار الرياضي البحت الذي يكسبني الذهب الأصيل ويمنحني روح البطولة ولا تتشابك فيه الممارسات، خاصة وأنّ الرؤية هي تنمية الإنسان، هذا الذي مطالب بالاشتغال على نفسه مع ضرورة أن يجد من يمسك يديه ويقوده للطريق الصحيح، أقف كثيرًا عند برنامج "شجع فريقك" لأنني سمعت كثيرًا ورأيت أيضًا مشهده من العمق الذي أبحث عنه، وفي عالم إلكتروني يفرض إيقاعه لم يجد المهتمين والباحثين للسيطرة عليه إلا "الإنسانية" وزرع الثقة لمساعدة الآخرين لكسب رهان واقعيته، لذا أقول إن برنامج "شجع فريقك" يساهم في تعزيز الانتماء للفرق الأهلية دون الأندية ومصالحها المتأثرة بحكم اشتغال لاعبيها في بطولة لم "ترحم" إنسانية اللاعب الذي خرج من موسم رياضي مجهد وهو بحاجة لمتنفس يعيده بعد حين ليكون مستعدًا لموسم قادم، لكنه يقع ضحية هذه البطولة مع تجنيه ـ للأسف ـ على نفسه باستسلامه لمغرياتها ويفقد بذلك أحد أهم مفاتيح النجاح المتمثل في الطاقة والتي تعيش على توجس من "ثلاثة لصوص" التغذية، القلق، والإجهاد، ولا أنكر هنا إن برنامج "شجع فريقك" له وجه إيجابي وناجح، لكنني سأظل أعود للمعيار الذي أبني عليه الرياضي وترتيب الأولويات فليست كل الأنشطة على نفس الدرجة من الأهمية، فهناك الحيوي والهام والروتيني، وليس عدلاًُ أن نرى لاعبي الأندية والمنتخبات يخوضون غمار هذه البطولة ولا تجد الأندية لاعبيها وإن وجدتهم فهم في حالة ذهنية وبدنية صعبةجدًا، علاوة على الإصابات وتوابعها المعنوية والمادية، كل ذلك يهدر وبشكل غريب ومقلق للطاقة التي ستعيش صيفا متداخلا مع شهر رمضان المبارك المتخم أيضًا بالفعاليات والبطولات والممارسات الغير صحية.

يمكن لهذه البطولة أن تحقق النجاح أكثر بصياغة جديدة وحتى بتوقيت آخر وبقوانين تكفل الحقوق وتراعي الأولويات، مع ضرورة تعاون وإشراك الجهات المعنية باللعبة في ذلك، وما هو معلوم أن هناك بطولات كثيرة تقيمها الفرق الأهلية نفسها بشكل منظم وحوافز كبيرة، كما تقيمها الأندية والمؤسسات وغيرها من الجهات، لذلك فإن تبني الوزارة لهذه الفكرة وإن كان بحسن النية طبعًا، إلا أنه لم يضيف لها سوى الغطاء الرسمي، ونعم أن "من رأى ليس كمن سمع" لكن "الإذن تعشق قبل العين أحيانًا" وأعترف إنني لم أعش "شجع فريقك" لحظة بلحظة ولم أكتب واقعيته ولم أترجم مضمونه إلا من خلال دائرة ضيقة ـ ربما ـ أحاول هنا أن أجعلها تتسع؛ اقتناعًا مني أن الأرض الخصبة مكانًا يتقبل زراعة كل الآراء والأفكار، والناس على قناعاتهم يزرعون ما يشاؤون "ومن زرع حصد" وإن لم يعد ما قلته دليلاً كافيًا، سأقول: ولكنني سمعت ذلك!!

تعليق عبر الفيس بوك