حول قراءة الرواية

عهود الأشخرية

ليس من الغريب أن تصادف القُراء أسئلة دائمًا حول معنى أن يقضي الإنسان وقتا في قراءة رواية ما، أو حتى قضاء أوقات طويلة في اختيار قائمة مناسبة لمجموعة من الروايات. هنالك الكثير من الناس يستنكرون قراءة الروايات ويعللون ذلك بأنّه من الأجدى أن نقرأ كتابًا فكريًا ثقافيا أو علميًا فضلا عن إضاعة الوقت في قراءة رواية. إنهم يعللون ذلك بأن الروايات مجرد حكايات وقصص سطحية تافهة ولا تضيف شيئا إلى الإنسان فضلا على أنها يمكن أن تدخله في حالة من كره القراءة، والابتعاد عنها. إنّ هذا السؤال عمومًا يبدو سؤالا منطقيا لأولئك الذين لم يجربوا أن يقرأوا رواية مختارة بعناية فائقة، لكن هذه المسألة لها وجهات نظر متعددة، هذا يعني أنّ هنالك رواية جيدة ورواية سيئة، الرواية الجيدة هي التي تتمكن من إضافة شيء جديد للقارئ أو إدخاله في عوالم من المعرفة ومن التجلي في شيء ما، فثمة تاريخ هائل في بعض الروايات، وثمة فلسفة وفكر ومنطق وفن وحتى أن بعض الروايات تتجذر إلى علوم مختلفة كالطب والأحياء وغيرها. وأؤيد أحيانا أولئك الذين يستنكرون قراءة رواية إذا كانت هذه الرواية لا تمنحني قيمة جيدة في النهاية، ولا تُشبع روحي المتلهفة لشيء جديد فكما يقول (برتولت بريشت): "أيها الجائع تناول كتابا" لكن السؤال يا (بريشت) ماذا لو كانت هذه الوجبة فاسدة؟! وهنالك حكمة صينية تقول: "اقرأ كتابا للمرة الأولى تتعرف على صديق، اقرأه مرة ثانية تصادف صديقا قديما" ماذا لو لم يكن هذا الصديق جدير بالتعارف؛ هل سألتقيه مرة ثانية؟!

وانطلاقا من مقالة قرأتها مؤخرا للكاتبة الروائية التركية (أليف شفق) بعنوان "هل تطور قراءة الروايات عقولنا؟" كتبت فيها عن تفاسير وأسباب مختلفة لقراءة الرواية، فتبدأ مقالتها باستحضار تفاصيل الحياة في زمن معين، تفاصيل من الزاوية التي تنظر منها لأشياء مختلفة كصفوف الابتدائي، وعلاقتها الأولى مع الكتاب، ثم غاصت بعد ذلك في نقطة مهمة في الوعي، حيث تقول فيما معناه أنهم في الصف يدرسون فوائد القراءة وفي البيت الكل ينصحهم بالقراءة لكونها حسب رأيهم شيئا عظيما ومهما لأي شخص لكن رغم ذلك لا أحد كان يقرأـ وأساسا فإنهم يقفلون على الكتب لأسباب لا تبدو مقنعة على الإطلاق. تتعمق (أليف شفق) أكثر في قضية منعهم من القراءة آنذاك ثم بسبب ذلك نصيحة عظيمة للعالم تصلح لأي زمان وأي مكان، مجملها في ترك الكتب حرة للعابرين في أي مكان! تقول (أليف) : "لتُترك الكتب حرة ، ولتكن بلا مالك حتى، لتنتقل من يد إلى يد، ومن لسان إلى لسان. حين يجدها غيرنا فليأخذها ويقرأها. ثم لينسها هو بدوره عندما ينتهي منها في مكان ما. لنترك الأحرف بعيدة عن قيد التملك. لتكن كالبدو الرحل". مقالة (أليف شفق) تناقش محوريين مهمين في قراءة الرواية، وقد وضحت ذلك مع بعض الإثباتات ووفق معطيات كثيرة، المحور الأول حول أن قراء الروايات يمتلكون حسا تعاطفيا متطورا، وهذا الحس لا يتطور لمن لا يقرأون الروايات، هذا كله حسب دراسة قامت بها جامعة في أمريكا، وفي ذلك وزعوا لعينة من 140 طالبا روايتين رائجتين عند الشباب خصوصا هما الشفق (ستيفاني ماير) وهاري بوتر (رولينغ) ، فعند متابعة النتائج لاحظوا الجانب العاطفي والتشارك الوجداني يزداد إلى حد كبير في العينة المستهدفة وذلك من خلال التصرفات في الفترة التي تلت قراءتهم للرواية.

أمّا المحور الثاني الذي ركّزت عليه (أليف شفق) فقد كان مستندا إلى دراسة أجرتها جامعة ليفربول في إنجلترا، مجمل هذه الدراسة أنهم قدموا للعينة روايات تاريخية لشكسبير وتوماس إليوت وأيضا نصوص شعرية، وحين بدأوا بمراقبة أدمغة الفئة المختارة من خلال أشياء معينة لاحظوا أن أجزاء عديدة من الخلايا غير النشطة في الدماغ بدأت تتنشط، وهذا النشاط أو الطاقة تزداد أكثر حين يواجههم جزء صعب من الرواية أو كلمات غير واضحة، وهذا الأمر بحد ذاته يدفعهم إلى البحث في تأويل ما لم يفهموه، وهذا جدير بجعلهم أكثر وعيا، وأكثر نشاطا. وأما من ناحية طبية يقول الأطباء النفسيون في الغرب: بدل أن تشتري كتبا عن العلاج والتداوي، اقرأوا شكسبير وبالزاك ودوستوفيسكي وستلحظون الفرق بأنفسكم. كما يقول (كافكا) في ذلك "الكتب عقار مخدر"، وليس من دليل على ذلك إلا القُراء الذين ينتقلون من حالة إلى حالة مختلفة بعد القراءة.

ومن هذا؛ على الروائي أن يفكر مرارًا ما هو الشيء الذي ستقدمه روايته للبشرية؟ لماذا اختار الرواية وسيطًا لرسالته مهما كانت نوعها؟ فإننا نلجأ دائمًا إلى الرواية هربًا من اللغة المبالغ فيها، هربا من الكلام المصفوف في الكتب العلمية والتي تحدث حالة صداع في الأعماق، ومن متاهات الفلسفة، وأيضا نهرب إليها من النظريات الكثيرة التي يكتشفها العالم يوما بعد يوم؛ ذلك لأن الرواية يمكن أن تدخلنا إلى عالم آخر لا يزعج ذواتنا حين نعيش دور إحدى الشخصيات التي يجذبنا شيء ما فيها، فإنّه حتمًا ثمة تشابه بيننا وبين شخصيات كثيرة في الروايات، لأنّها في النهاية تحكى عنا، عن آمالنا ويأسنا، يقيننا وأوهامنا ورؤانا، ولأنّها غالبا تكون نحن ولا تذهب إلى نطاق أبعد من ذلك.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك