نقد الحال الراهن (19) الترقيع

د. صالح الفهدي

كان الرجل القروي المسن معروفاً في القرية بإصلاح مضخَّات المياه، وكان ماهراً في إصلاحها حتى بعد أن صار أعمى؛ فقد كانتْ المضخات حاضرةً بتفاصيلها في ذاكرته، لكنه وبعد أن صعُبَ عليه "ترقيع" مشكلة إحدى المضخات، تأوَّه ببيت من أبيات ابن الصوفي؛ فقال:

كم أداوي القلب قلت حيلتي...

كلما داويت جرحاً سال جرح!

الأمرُ الطبيعيُّ حدوثُ مشكلات في مناحي الحياة على اختلاف أهميتها، وأثرها في حياة الأفراد والمجتمعات والحكومات؛ فيقتضي ذلك القيام بإيجاد حلٍّ ناجع لها، غير أنَّ الأمر غير الطبيعي هو إيجاد حلٍّ مُؤقت لا يعقبه حل جذري؛ أي مُمارسة سياسة الترقيع التي لن تنهي المشكلة، بل تعيد ظهورها مجدداً، وربماً بصورة أكثر حدةً؛ بحيث تستعصي على الحل الجذري ذاته حين "يتسع الخرق على الراقع" كما يروي المثل!

هذه إشكالية ثقافية تقيسُ بُعد النظر، وصواب القرار، وحُسن التخطيط، وقوَّة الإرادة، وهي من الإشكاليات التي تتفشَّى في مجتمعاتنا إلى أن أصبحت مما تُوسم به. وسياسة الترقيع وإن كانت صالحةً لتهدئة المشكلات لبعض الوقت، إلا أنها لا يمكن أن تشكل حلاً نهائياً لها. بل الإشكالية الأكبر: استفحال الأزمة أو المشكلة تحت السطح، ثم انفجارها في لحظة بلوغها درجة الفوران والاحتقان!

أغلب الأفراد -والمؤسسات- يبحثون عن الترقيع لحل مشكلاتهم، وهذا أسلوب "التعمية" يُمارسه الأفراد والمؤسسات من أجل "كبت" الشعور المنبه لوجود المشكلة، كمن يفقأ عين لمبة جهاز الاستشعار ليُوهم نفسه بعدم وجود مشكلة..! لكنه لا يغيِّر شيئاً في وجود أصل المشكلة، بل إنها تتفاقم إلى الأسوأ، وحال ذلك كحال المسكنات التي تخفف الوجع لكنها لا تقضي على المرض!

... إنَّ الخوف من مُواجهة المشكلات مُواجهة حقيقية تتسم بتقبل الواقع والتسليم بوجود المشكلات فيه مما يستلزم التحلي بالشجاعة والإصرار هو خوف يعود إلى ضعف الثقة بالنفس، والهروب من المشكلات اتقاءً للعمل السليم. وهذا وهم يُسيطر على الناس بأن المشكلة غير عميقة، وأنها قد تحل نفسها بنفسها أو يأتي أحد ما ليحلها بدلاً عنهم!

ويستغربُ المرء وهو يَرَى الترقيع في بعض المشكلات المادية الظاهرية ماثلاً أمامه في أمثلة كثيرة لا تُحصى، فإنَّ كثرة الحفر في طريق ما، لا يُمكن حله بالترقيع؛ لأنَّ الإشكالية أكبر من مجرد ردم حفرة هنا أو كبس حفرة هناك، وإنما الحل الأمثل هو جذري يتلخص في إزالة الطريق برمته واستبداله بآخر؛ لأن ذلك هو بعينه ما ستفعله الجهة المسؤولة بعد أن يعييها الترقيع، فتجد أنَّها أنفقت على الترقيع من أموال أكثر مما تنفقه على إقامة شارع جديد! وقس هذا الأمر على المباني والمركبات والحدائق والأسواق وكل ما يخطر على نفسك! يقول الملياردير وارن بافيت: "إذا وجدت نفسك في قارب يعاني من التسريبات، فإن الطاقة المخصصة لتغيير السفن من المرجح أن تكون أكثر إنتاجية من الطاقة المخصصة لترميم التسريبات".

لكنْ ومع ذلك، يبقى ترقيع المشكلات المعنوية الفكرية هو الأسوأ لأنه يتعلق بوعي الإنسان، وتنمية قدراته الفكرية. على سبيل المثال، فإنَّ المشكلات المتعلقة بالتعليم أو الصحة أو النقل أو الإسكان أو الخدمات العامة الأخرى لا يُمكن حلها بالترقيع، وإنما بسياسة عامة توضع لها أسس جديدةً تنطلق من المواجهة الواقعية للمشكلات، وترسم بعداً للآثار الإيجابية المتوخاة، فإنَّ الترقيع المستمر في هذه الخدمات لن يؤدي بها إلا إلى تراكم المشكلات وعجز الحلول فيما بعد.

وفي نطاق أخلاقيات المجتمع وقيمه، فإنَّه لا يمكن الاكتفاء بخطابيات قاصرة، وعظات مستهلكة عن إحداث تغيير كالملتقيات والندوات والورش والخطب...وغيرها، إنما تحتاج إلى مؤسسات راعية، وسياسات وطنية عامة، وبرامج مؤثرة، وقيادة فاعلة. أما في جانب التربية، فإن الحلول الترقيعية لا تنفع إذ يظنُّ المربون أنَّ كلمة "اسكت" أو "شراء هدية" أو "تلبية المطالب" تقضي على إشكالية الفراغ العاطفي أو النفسي عند الأبناء؛ فتُبعدهم عن الضياع أو الانحراف أو الشعور بالاكتئاب أو القلق من المستقبل، وما إلى ذلك، لكنَّها جميعها أساليب قد ينهجها المربون لأجل "عدم تصديع" الأبناء لهم وعدم إقلاقهم بمشاكلهم، وهذا تخل عن المسؤولية وهروب منها!

ثقافة الترقيع هي ثقافة تسكين وتخدير للمشكلات، وهذا يعني بقاء المشكلات المزمنة وعدم القضاء عليها، وهي ثقافة أفقدتْ مُجتمعاتنا الكثير من الجهود والموارد الطبيعية والمالية. وهنا، أستذكر مقولة قالها أحد المفكرين: "إنَّ ضربةً على الجذور تغني عن ألف ضربة في الأغصان"، لكنك ترى الكثير من الناس يقطع الأغصان؛ ظنا منه أنه قضى على مشكلة تمدد الشجرة التي ما تلبث في الظهور ثانية..! فإن يقدم الفرد أو المؤسسات على الترقيع فهذا يعني أنهم يوهمون أنفسهم بأنَّ هذا هو الحل للمشكلة لكنهم يعلمون في قرارة نفوسهم بأن الحل لن يقضي على المشكلة، وإنما هي مشكلة يريد كل فرد توريثها لمن يأتي بعده؛ فالمسؤول قد يظهر أنَّه صاحب حلول سريعة ومثالية وهذا ما يرفع رصيده، ويثبت من مكانته، لكن وبعد فترة من الزمن تكشف الأزمات أن تلك الحلول لم تكن إلا مؤقتة، وأنها كانت مجرد ترقيع، حينها يبتلى غيره بحلها وربما يلجأ للترقيع ذاته وهكذا دواليك!

تحكي إحدى القصص الرمزية أنَّ شخصاً مات وهو يحاول إنقاذ ضحايا يقعون في النهر واحداً تلو الآخر، وهو يقفز لإنقاذهم حتى كلَّت أعضاؤه فسحبه النهر معهم، ولو تفكر ونظر لرأى أن السبب فتحةً في جسر يسقط منها الناس، وحينها سيوفر على نفسه الجهد لو اختار الصعود إلى الجسر ليحذِّر الناس من مغبَّة السقوط فيها..! هذه القصة تحيلنا إلى "فقه الأسباب" وضرورة العلم به.. يقول د.عبدالكريم بكار: "نحن كثيراً ما نعقد الحماسة للبحث عن الأسباب؛ لأن البحث فيها مجهد ومضن، ونتائجه ليست مضمونة، أو لأننا لا نعترف بأهمية ذلك البحث وجدواه. وأعتقد أنه قد آن الأوان لمغادرة هذه الوضعية، والبدء في الحفر في الطبقات العميقة لحياتنا الاجتماعية بكل أبعادها".

نعم.. علينا مغادرة هذه الوضعية والبدء في الحفر في الطبقات العميقة لحياتنا الاجتماعية؛ فميلنا تجاه الترقيع في حياتنا -أفراداً ومؤسسات- قد أضاع علينا جهوداً وأوقات وأموالاً، لو أننا استثمرناها في الحلول الجذرية لكان أوفر لنا وأجدى نفعاً، لكن استسهالنا للعلاج، واستعجالنا للحل -بعد أن كنا نملك الوقت الوافر- وضيق أفقنا في الإصلاح، دفعنا إلى الحلول الشكلية، والعلاجات الظاهرية، والمهدئات الوقتية؛ فكان ذلك باعثاً على تفاقم الأزمات، وتراكم المشكلات. قلت لنفسي وأنا أتفكر في إحدى المشكلات: "لم يكن لهذه المشكلة أن تظهر بهذه القوة والقسوة إلا بسبب التراخي عن حل المشكلات الصغيرة، وتراكمها ثم تحولها إلى مشكلات كبيرة، أعطاها الاحتقان قوةً هائلةً في الظهور كمثل الغاز على خفته حين يحبس في كبسولة يتحول إلى قنبلة خطيرة".

هذه الثقافة بحاجة إلى تغيير الأسس ليس بـ"الترقيع"، وإنما بتغيير المفاهيم والمبادئ التي نشأ عليها الإنسان في مجتمعاتنا تماماً كتغيُّر الأرض للغراسة، وتقليب التربة لنثر بذور جديدة، وتهيئة مناخات مختلفة، هذا التغيير يقوم على تحمل المسؤولية، وتفهم معنى الرعاية، والقيادة، وتدريب النفس على سعة الأفق، وتحفيز العقل على التفكير لما وراء المشكلات، والتخلص من الحل الانفعالي، والعلاج المهدئ، ونبذ الحلول السلطوية القائمة على الإقسار والإذعان. لا يُمكن أن ترمِّم البيوت والأسس مُتقوضة، كذلك لا يمكن إصلاح الأنظمة في المؤسسات، وأساليب التفكير في المجتمعات إن كانت المفاهيم الراسخة في العقل واهية، لا تقبل النقد الإصلاحي، ولا تستوعب التغيير الإيجابي.

تعليق عبر الفيس بوك