عبقٌ من سيرةِ فقيدِ عُمان

عيسى بن علي الرواحي

في كل يوم وليلة يكثر المغادرون من هذه الدنيا قادمين إلى حياة أبدية خالدة، ونؤمن جميعًا بأنّ ذلك مصير حتمي ينتظر كل حي، فالأحياء جميعًا سيصبحون يومًا أمواتًا، والأموات جميعًا سيصبحون يوماً أحياء، ومشاهد نهايات البشر في الحياة متباينة وقصص رحيلهم مختلفة، وللمرء حرية الاختيار في تحديد مصيره؛ بيد أنّ المصير مرهون بالمسير، وفي قصص الراحلين العبر والعظات، والدروس والفوائد لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وثمة نهايات ينبغي أن نتوقف أمامها ملياً، ونتمعن فيها جليا، ونتزود منها قدرا وافرا من دروس الحياة؛ فالقصص لأجل التفكر والمشاهد لأجل الاعتبار، ولعل مشهد رحيل الشيخ الداعية خلفان العيسري _ رحمه الله_ واحد من تلك المشاهد التي ينبغي أن تكون لنا فيه وقفات للتأمل والتزود بما ينفعنا وينير طريقنا نحو الأفضل.
ولست هنا في معرض سيرة الفقيد الراحل، لأنني لست أهلا لذلك، ولا أظنني أضيف جديدًا للقارئ الكريم، فقد قامت وسائل التواصل المختلفة ووسائل الإعلام المحلية بهذا الدور المحمود، ولعل جريدة الرؤية كعهدنا بها تستحق الإشادة والتقدير أكثر من غيرها من وسائل الإعلام؛ فقد أفردت مساحات واسعة من صفحاتها في شأن المصاب الجلل تنوعت بين المقالات والقصائد وردود الأفعال، وهكذا ينبغي أن تكون رسالة الإعلام متواكبة مع الأحداث أولاً بأول، كما ينبغي أن يكون منبر الإذاعة المدرسية في مختلف المدارس متواكبا مع مثل هذه الأحداث، فعندما ترحل شخصية بارزة مؤثرة فإنِّه من الأهمية بمكان معايشة أبنائنا الطلاب لهذا الحدث، وتعريفهم بهذه الشخصية، وذكر مناقبها لأجل رفع حصيلتهم المعرفية، ولأجل السير على خطى الصالحين.

إنّ الوقفة الأولى التي يجب أن نسلم بها، ويجب أن نطبقها في واقع حياتنا، أنّ الذي ينال شرف محبة العباد هم المؤمنون الذين يعملون الصالحات مصداقاً لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) [سورة مريم : 96] وإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانا فَأَحِبُّوه فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُم يوضع له الْقَبُول فِي الأرض، وهذا الحب لا يأتي من فراغ ولا بالتمني والأماني الفارغة؛ فالحب الذي أجمع عليه أبناء الوطن على شخصية العيسري، والحزن الذي هزَّ عُمان بأكملها على رحيله، وضجت على إثره وسائل التواصل والإعلام، والجموع الغفيرة التي شيعت جنازة الفقيد الراحل في وقت الدوام الرسمي وحضرها أغلب علماء عُمان، والمقالات التأبينية وقصائد الرثاء لم تكن عبثًا ولا مصادفة ولا من فراغ، فمن سخر جهده ووقته وصحته ومرضه وجل طاقاته لخدمة الإسلام وأبنائه، وكان وفيا مخلصا في حب وطنه؛ فإن تلك نتيجة حتمية تتوافق مع سنة الكون وفطرة الإنسان.
أصحاب الأموال الطائلة واﻷملاك الكثيرة إن لم ينفعوا بها البلاد والعباد سيرحلون من الدنيا ولن تنفعهم أموالهم ولا أملاكهم وربما تكون دمعة عين غالية عليهم، وكلمة في زاوية جريدة كثيرة في حقهم، وأصحاب المناصب الرفيعة إن لم يستشعروا عظم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، ولم يخلصوا في أمانتهم ويؤدوا واجباتهم على أكمل وجه، سيرحلون من الدنيا ولن تذهب معهم مناصبهم وربما سيكون يوم رحيلهم راحة للبلاد والعباد، وأصحاب النسب الرفيع والوجاهة الاجتماعية إن لم يتواضعوا لله وللعباد ولم يحرروا أنفسهم من الكبر والبطر والغرور سيرحلون من الدنيا ولن تشفع لهم أنسابهم ولا وجاهتهم ولن يكون يوم رحيلهم يوم مأتم ولا بكاء لغير أهلهم، وأهل العلم والعبقرية والذكاء إن لم يسخروا علمهم في مرضاة ربهم وخدمة عباده وإعمار الأرض ويزينوه بالتواضع ونفع البشر؛ سيرحلون من الدنيا ولن ينفعهم علمهم ولا ذكاؤهم ويوم رحيلهم سيكون يومًا لا حس فيه ولا خبر، وهكذا تبقى الحقيقة الناصعة هي أن الناصحين الصالحين المخلصين الأوفياء الأتقياء هم أهل محبة الأرض والسماء.
لقد كان الفقيد الراحل ذا منصب بالدولة ولكنِّه أخلص في منصبه؛ فبه نال محبة العباد، وكان ذا علم ومعرفة لكنه نشر علمه بما ينفع النّاس ودعا لله بالحكمة والموعظة الحسنة، فبه نال محبة العباد، وكان ذا فكر وبصيرة لكنه سخر ذلك في خدمة الوطن والشباب؛ فبه نال محبة العباد، وكان ذا مال لكنه استغله في مرضاة ربه؛ فبه نال محبة العباد، وزين ذلك كله بالخلق الرفيع والسلوك الحسن والتواضع الجم، فبه نال محبة العباد.
إنّ أكثر ما يُعانيه شباب اليوم ضياع اﻷوقات، والاهتمام بسفاسف اﻷمور وتفاهاتها، ففي اليوم الذي تفاعلت فيه جميع فئات أبناء الوطن مع رحيل الشيخ العيسري تفاعلت عقبه بيوم واحد طائفة كبيرة من الشباب والطلاب بشأن مباراة جمعت ناديين أوربيين ولو اقتصر اﻷمر على المشاهدة لكان ذلك أهون بكثير؛ وإنّما التراشق باﻷلفاظ النابية والاستهزاء والسخرية وتبادل التعليقات والصور والرسائل التي ضجت بها كثير من المجموعات الهاتفية إلى منتصف الليل؛ مما يؤدي ببعض الشباب أو كثير منهم إلى التجرد من القيم الحميدة واﻷخلاق الرفيعة مع هدر أوقاتهم وتبديد طاقاتهم، فهل طاقات الشباب وأوقاتهم التي كثيرًا ما ركز عليها الفقيد الراحل تسخر لهذه المواضيع التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟! وهذا اﻷمر يقودنا إلى الحديث عن ثقافة الخلط وازدواجية المعايير؛ حيث يجمع كثير من الناس اليوم بين صالحات اﻷعمال وطالحاتها وحسنها وقبيحها وهذا بلا ريب قد يؤدي إلى خسارة العمل إذ قبول اﻷعمال لا يكون إلا من المتقين، وليس متقيا من جمع بين سيئ وقبيح وصالح وطالح يقول تعالى: (...إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [سورة المائدة : 27] وهل يا ترى عهد عن الفقيد الراحل أو كل صالح تقي أنه مع كثرة صالحات أعماله وعظيم إنجازاته يرتكب محظورًا محرمًا أو يترك فرضًا واجبًا؟!
وإذا كان الفقيد الراحل قد عهد عنه الاطلاع الوافر والثقافة الواسعة والمعرفة الكبيرة التي تجلت في محاضراته الدينية وخطبه الجمعية الارتجالية ودوراته العلمية وأفكاره النيرة ورؤاه السديدة؛ فإن ذلك قد حصل بطول جهد وكبير عناء وجد واجتهاد في طلب العلم وتحصيله والدراسة داخل الوطن وخارجه، والنهل من علم مشايخ العصر ومجالستهم والتعلم الذاتي والقراءة المستمرة مستغلاً في ذلك جميع أوقاته وقدراته، وهذا ما نحن اليوم في أمس الحاجة إليه وهو أهمية التزود بالعلم والمعرفة والقراءة والبحث والاطلاع في شتى علوم الدين وعلوم الدنيا النافعة، ولن يتأتى لنا ذلك إذا بقينا نعيش في حالة الفوضى والعبث بتضييع اﻷوقات وتبديد الطاقات فيما لا ينفع ولا يفيد، والانشغال عن أولويات الحياة بسفاسف اﻷمور وتفاهاتها.
إنّ مشاهد الحياة اليومية ورسائلها الدائمة التي نعيشها ونراها ونسمعها ينبغي أن تزيدنا إيمانًا بحقيقة الدنيا ومصيرها الآيل إلى زوال، وينبغي أن تشحذ هممنا لاستغلال طاقاتنا وتثمير أوقاتنا ومضاعفة جهودنا ومواصلة إنجازاتنا من أجل الوصول إلى الغاية الحقيقية التي من أجلها خلقنا وهي عبادة الله وحده، وما ينضوي تحت هذه الحقيقة من تعمير الأرض بالصلاح والبناء، ومن أدرك هذه الحقيقة وسار وفقها وعمل بمقتضاها فهو الرابح الفائز بمشيئة الله تعالى وإرادته.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك