من الرَّمضاء إلى النار

عائشة البلوشيَّة

ما إنْ تشحذ جدتي الغالية الشيخة موزة بنت راشد بن سعيد البلوشية ذاكرتها عن الماضي، إﻻ وتجدني كلِّي آذان صاغية، وكَمْ حدَّثتني عن أسلوب الحياة وطريقة العيش في فترات طفولتها وشبابها في قرية العراقي بولاية عبري، وكم شدَّتني تلك الذكريات وأسلوب جدتي الشيق المليء بالتفاصيل، والذي يجعلني أُعمل خيالي ﻷتصور تلك المشاهد التي تقصُّها، والتي كنت في طفولتي أظنها من أيام الجاهلية، لِما كانت تُخبرني إياه من خطف وسبي للفتيات من قبل مجهولين، وبيعهن لشيوخ وأمراء دول الخليج العربي المختلفة، وأنَّ هناك العديد ممَّن ذهبن ولم يُعرف لهن طريق، وهناك من ذهبتْ ولكنها عادت بعد سنوات النهضة لأنها احتفظت في ذاكرتها باسم البلدة وأسماء أهلها وذويها؛ فعادت وتعرَّفت عليهم وقد أصبحت أمًّا وجدة، وعاد التواصل بينها وبين أهلها، كنتُ أحسُّ بالرعب الشديد في طفولتي من انعدام الأمان في الزمان الذي عاشته جدتي؛ لدرجة أنني كنت أتوقع سماع اسم أبو جهل أو أبو لهب وهما يتجوَّلان في دُروب العراقي ضمن تفاصيل حكايات الرعب التي تقصها عليَّ. وتطرق رأسها مُتطلعة إلى تفاصيل السجادة التي أمامها وتزفر بألم عندما تتذكر أولئك الذين قضوا من الأقارب والمعارف وهم في شبابهم، وهم يبحثون عن لقمة العيش في الماضي القريب في دول الجوار، وتحدِّثني عمَّن وافته المنية في البر والبحر بعبرة خانقة، يبحثون عن عمل يوفر لأسرهم سبل العيش الكريم؛ فكم تحمل ذاكرتها التي بدأتْ في الأفول أسماءً راحوا ضحية قطَّاع الطرق، أو غرقوا وهم في رحلة غوص بحثا عن اللؤلؤ، أو بسبب فتك الأمراض، ذهبوا بحثا عن عمل ولم يعودوا أبدا، ويسترسل عقلي متابعا ما تقصه من أحداث مؤلمة، وأنا أقدر بكل امتنان الزمان الذي أعيشه الآن، وأحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ﻷنني من هذه البلاد الطيبة ولها.

كنتُ أتابع عبر القنوات الإخبارية ذلك الخبر الأسود لغرق القارب الذي غرق بحمولته المكونة من ثمانمائة رجل في عمر الشباب، كانوا في طريقهم من شواطئ ليبيا للتسلل إلى إيطاليا بطريقة غير شرعية، وقد فجعني خبر وفاتهم جميعا، مما استدعى ممثلي دول الاتحاد الأوربي لإفراد مساحة كبيرة من وقت اجتماعهم المنعقد يومها، للتداول فيما بين المجتمعين أمر الهجرة غير الشرعية، التي أصبحت تقضُّ مضاجعهم بشكل شبه أسبوعي؛ بسبب غرق تلك القوارب إمَّا للحمولة الزائدة أو العواصف الهوجاء التي تتلاعب بتلك السفن والقوارب بين الأمواج العاتية، لتطعم أحلام من ركبها لأسماك البحر، وليست السلطنة بمنأى عن مثل هذه الحالات، فجُهود شرطة عُمان السلطانية وتضافر تعاون المواطنين تظهر لنا أعدادا من المتسللين لحدودنا البحرية، ممن اتفق مع عصابات التهريب، ودفع لها مبالغ طائلة، لتلقي به على شواطئنا ليبحث له عن عمل يسترزق منه، ومنهم من يصل وتتم إعادته إلى بلاده، ومنهم من يلقى حال تلك السفينة الغارقة.

تذكَّرت حديث جدتي الغالية، وانشراح صدرها بعد سماعهم عن تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم مقاليد الحكم في البلاد، وأنه حان وقت انتهاء عهود المعاناة التي رزحوا تحت ثقلها، وأن الآباء والأخوة والأبناء سيجدون العمل هنا، وسيبنون بسواعد الجد بلادهم، وتابعت الخبر المشؤوم لغرق القارب غير الشرعي، وأطرقت مفكرة بأولئك الشباب الحالمين بالأمان المادي والمعنوي في البلاد الأوروبية بعدما فقدوه في بلادهم، التي اجتاحتها للأسف نيران "الربيع العربي"، فكانوا كمن هرب من الرمضاء ليلقي بنفسه في أتون "نار البحر الهادر". إنَّ الإنسان المستقر في بلده، الآمن في سربه، الذي يملك قوت يومه وعياله، لن يُفكر نهائيا بترك تلك النعم، ويهجر مضجعه ووالديه وأرضه، ليمضي راكبا البحر ويواجه أمواجه التي قد تبتلعه في أي لحظة.

الشبابُ المتعلم ثروة عظيمة أدرك أهميتها ولي أمرنا -رعاه الله وأبقاه- منذ أن بسط الأمان والاستقرار في بداية السبعينيات؛ فطلب ممَّن ارتحل أن يعود ليوجه طاقاته إلى أرض وطنه، وحثَّ حكومته على تنمية الشباب ورفع قدراتهم ومؤهلاتهم، ليرى أبناءه يُمسكون بزمام الأعمال في جميع القطاعات في الدولة، وأكد على تنمية الموارد البشرية في كل محفل؛ لأنها من ثوابت التنمية المستدامة... حفظ الله مولانا وأدام على عمان نعم الأمن والأمان والاستقرار والرخاء.

توقيع: "من خلال مسح الخريجين يبدو أن نسبة 46% من مخرجات التعليم العالي "باحثون عن عمل"، نسبة تدق ناقوس الحذر".

تعليق عبر الفيس بوك